ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ : أي تجلى سبحانه من خلا

تفسير وأحكام وقصص من القرآن الكريم

المشرف: manoosh

أضف رد جديد
د نبيل أكبر
عضو نشيط
عضو نشيط
مشاركات: 54
اشترك في: الجمعة أكتوبر 07, 2011 4:06

ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ : أي تجلى سبحانه من خلا

مشاركة بواسطة د نبيل أكبر » الجمعة فبراير 10, 2012 5:02


بسم الله الرحمن الرحيم



وردت آيات "الاستواء على العرش" سبع مراتٍ في القرآن الكريم:

أولا:

إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوتِ وَالأرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ
يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَتٍ بِأَمْرِهِ،
أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ، تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَلَمِينَ {54}
ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ {55}
وَلا تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ بَعْدَ إِصْلحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً
إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ {الأعراف: 56}


ثانيا:

إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ
يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ
ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ {يونس: 3}



ثالثا:

اللهُ الَّذى رَفَعَ السَّمَوَتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا،
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ،
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ،كُلٌّ يَجْرى لأَجَلٍ مُّسَمًّى،
يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ {الرعد: 2}


رابعا:

طه {1} مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْءَانَ لِتَشْقَى {2} إِلا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى {3}
تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ والسَّمَوَتِ الْعُلَى {4}
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى { 5}
لَهُ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى {6}
وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى {7}
اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى {طه: 8}


خامسا:

الَّذِى خَلَقَ السَّمَوتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَسْـءـلْ بِهِ خَبِيراً {59}
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ
أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً {الفرقان: 60}


سادسا:

اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فى سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ،
مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِى وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ {5}
ذَلِكَ عَلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {السجدة: 6}


سابعا:

هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوتِ وَالْأَرْضَ فى سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فى الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
لَهُ مُلْكُ السَّمَوتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمُورُ {الحديد: 5}



وأخيراً هناك غموض محير في آية العرش من سورة هود:


وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ
وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً،
وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ {هود: 7}



والغموضُ يكمنُ في كيفيَّةِ حلول عرش الرحمن على مخلوقٌ ماديٌّ هو الماء؟ ولِمَ الماء؟ وهل الماء موضوع على شيء آخر بدوره؟ ثُمَّ هل هذا العرشُ أخفُ وزناً من الماء ليطفوَ فوقه؟ من يقبلُ أنْ يكون الله تعالى على العرش طافياً على ماء – والعياذ بالله؟



ولو قلنا أنَّ العرشَ ماديٌ أيضاً، فسيبقى السؤالُ عن معنى قوله تعالى في العديدِ من الآيات القرآنيةِ الأخرى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}... ماثلاً، إذْ لو كان العرشُ ماديَّاً فقد يعني ذلك أنَّ الله تعالى ماديٌ كذلك، وهذا الاعتقادُ لا يجوزُ بحالٍ من الأحوال إذ أنَّه تعالى لا يتجسدُ في شيءٍ أو على شيءٍ! سبحانه جلّ جلاله.



ثم ما علاقةُ كونِ العرش على "الماء" بالابتلاء وعمل الإنسان {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}؟



قد يقال ما الداعي للنظر في آيات عقدية كان تفسيرها مسرحاً للاختلاف والقتال والتفرق بين المسلمين فيما مضى من القرون؟ فهناك مذاهبٌ كاملة تفرقت عن الصف الإسلامي نتيجة تفسير وفهم آيات الاستواء بطرقٍ مختلفةٍ. فما الداعي لإثارة الفتنة من جديد؟ وما الذي سيضيفه فهمٌ جديدٌ – مهما كان مقبولاً – للاستواء على العرش؟



إنَّ الاستواء على العرش كما سيتضح موضوعٌ عظيمٌ كما ينبغي له أن يكون، وله أبعادٌ عقديةٌ مهمةٌ جداً، إذ به سندركُ الكثيرَ من أسماء الله تعالى الحسنى، وبه ندرك تماماً أصل وسبب وجودنا، مما له أعظمُ التأثير على سلوكيات وأعمال الناس. فالموضوع أبعد ما يكون عن كونه خلافاً جدلياً نظرياً في علم المنطق والفلسفة.



ثم هل يُقبل أنَّ الله الحكيمَ الخبيرَ يُخبرُ خلقَه بأمورٍ أكبر من أن يدركوها ويتصوروها؟ فهل ينبغي لمدرس في المدرسة أن يدرس تلميذا في السادسة من عمره نظريات الهندسة النووية وأموراً نظرية بحتة مثلا! وعندما لا يستطيع التلميذ فهمها كما ينبغي لقلة مداركه يقول له المدرس افهم الدرس على قدر عقلك وبعد الامتحان سأشرح لك الموضوع! فمن يسمي هذا المدرس حكيماً؟ فلماذا نقبلُ مفهوم أنه تعالى يخبرُنا عن أشياءٍ نظريةٍ لا طاقةَ لنا بإدراكِها وهو الخبير اللطيف الذي يخبر بلطف ودقة وخفية؟ بينما ننكرها ولا نقبلها من المدرس لتلميذه؟



ولو قيل بأنه تعالى يجلس على العرش، ماديَّاً كان أم روحانياً ليُبيِّن للخلق عظمتَه ومُلكَه، فيكونُ السؤالُ إذن ولماذا يحتاجُ الخالقُ لأنْ يُظهرَ عظمتَه وملكَه لمخلوق من طين؟ ثمَّ لنفترض (وهذا غير مقبول إطلاقا) أنَّ الله تعالى يجلسُ على العرش ليبينَ ملكَهُ وعظمتَه، فمن الذي شاهدَ ذلك بحيث تتأثر علاقته بربِّه تعالى؟




إنَّ من معاني الاستواء لغةً النضوجُ والجُهوزية (أي أصبح الشيءُ جاهزاً) كما جاء في قوله تعالى في حقِّ موسى:


وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واسْتَوَى ءَاتَيْنَهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ {القصص: 14}


أو أنْ تقولَ استوى العِنَب.


بل نحن نستعملُ هذه الكلمةَ كلَّ يومٍ ... أوليست عبارة: "هل استوى الطعام" مألوفةً لديك؟



فمن معاني "الاستواء" لغةً ومن الآيات يمكن فهم أن الاستواءَ هو الظهورُ والتجلي بالقدرةِ والأمرِ والتمَكُنِ في الوقت المناسب. فهو تعالى {اسْتَوَى} أي ظهر وتجلى بقدرته وملكِه وأمرِه على السماء والأرض في الوقت المناسب.



أما العرشُ لغةً: عَرْشُ البيتِ سَقْفُهُ. وعَرْشُ الرجل: قِوام أمره. والعَرْشُ المُلك. والعَرْشُ والعريشُ ما يُستظلُ به. وعَرْشُ الكَرَمِ ما يُدعمُ به الخشب. وعَرَشَ الكَرْمُ: رَفَعَ دَواليهِ على الخشب وارتفع وظلَّل بجَناحيه من تحته.


ويُقالُ اعترشَ العنبُ عريشاً إذا عَلاه على العِراش. وعَرْشُ الطائرِ عُشُهُ. والعريشُ بناءٌ مؤلَّفٌ من عَوارضَ من حديدٍ أو خشبٍ محمولةٍ على عواميد تعترشُه النَّباتات المُتسلقةُ. والعريشُ ظُلَّة من شجر أو نحوه ...



وبهذا، فأخذُ "العرش" بمعنى سرير المَلكِ حالَّةٌ خاصَّةٌ واشتقاقٌ من التعريف الأساسيِّ الأشملِ والأدقِ والأنسبِ وهو "العَرْشُ والعريشُ" أي "البناءُ والنظامُ الجامعُ والمظِلُ والداعمُ والحامي لما تحته". فـ "عرشُ المَلكِ" مأخوذٌ ومشتقٌ من معنى"النظام الملكي الحاكم والمظل والحامي لمن تحته" ... ثُمَّ اختزلَ هذا التعريفُ عند العامة ليشمل سريرَ المَلك ومن حوله فقط ...




فقد يكون العرشُ بمعنى عَريش العِنَبِ الجامعِ للعناقيدِ والمُظَلِلِ لما تحته من الشمس ... وقد يكونُ بمعنى سقف البيتِ الذي يُظللُ ساكنيه ويحميهم ... وقد يكونُ الأنظمةَ والقوانينَ التي تحمي وتحكم وتُظلل مجموعةً من الناس سواء كانت عائلة واحدة أو مدينة أو قبيلة أو دولةً كاملةً ... وفي الحقيقةِ فمُعظمُ الملوك والحكام لا يجلسون على عرشٍ ماديٍّ مُعين، ولكن عُروشَهُم تبقى محفوظةً بمعنى حفظِ هيبتهِم وأنظمتهِم.



وهكذا فالمعنى العام للعرش قد يكون هو"العريشُ أو النظامُ الحاكمُ والمدبرُ لشؤون ما تحته" فلو اقترنَ بالله تعالى أصبح العرشُ هو "أسماءِ الله تعالى الحسنى" لأنَّ هذه الأسماءَ هي التي تحكم وتدبر الخلق ...



ولأنّ العرش من منظورنا هو الأسماء الحسنى التي تظهر وتتجلى وتستوي وتتجسد من خلال خلق السموات والأرض، فالعرش هو خلق السموات والأرض ذاته المحكوم بالأسماء الحسنى.




فكما يجمع العريشُ عناقيد العنبِ، فعرشُ الرحمن جلّ جلاله يجمعُ أسماءَ الله تعالى وصفاته ...

وكما تتدلى العناقيدُ برونقٍ وجمال ونظامٍ على عرائِشِها، فأسماءُ الله تعالى وصفاتُه تزهوا بجمالها وكمالها بنظامٍ على عرش الرحمن ...

وكما يَجْمَعُ سقفُ البيتِ وعَرِيشُهُ ما تحته ويحفظهم ويُظللهم، فأسماءُ الله تعالى تحمي الناس وتُظللهم.



ما يشير إلى أنَّ المقصودَ بالعرش هو " الأسماء الحسنى التي تحكمُ وتدبرُ شؤونَ الخلق وبالتالي الخلق" هو أنَّ ذِكْرَ "أسمائه الحسنى ودعوته تعالى بها وتدبير شؤون الخلق والأمر" في جميع الآيات التي جاء فيها ذكر "الاستواء على العرش" جاءَ بعد ذِكْر الاستواء على العرش مباشرة كما هو ظاهر في الآيات التي جاء فيها ذكر الاستواء على العرش أعلاه.



من هذا المنظور، فتدبيرُ أمر الخلق يتمُّ من خلال هذه الأسماء الحسنى، أي من خلال عرشه الكريم، جلّ جلاله. فنحن محكومين بوحدانيتِهِ ورُبُوبيتِهِ وإلوهيته وعدلِه وملكِه وإبدائِه وإنهائِه وإحياءِه وإماتتِه وإظهارِه وإبطانِه وتوقيتِه ورقابتِه ...


ومُحَاطين برحمتِه ومغفرتِه وتوبتِه وعفوهِ ورأفتهِ وصبره وستره وَوِدِّهِ وبرِّهِ وحفظه وسمعه وبصره وقدرته وتقديره وجبروته وقوته ... ونتعلم بنوره وهداه من علمه ورُشده وحكمته وخبرته وإحصاءه وحسابه وخلقه وجماله وبديع صنعه وتصويره ... ونحيا بكرمه وغناه ورزقه وعطاءه ... وما إلى ذلك من أسمائه تعالى ...


والآن، لأنَّ الاستواءَ هو الظهور والتجلي بالقدرةِ في الوقت المناسب، وأنَّ العرشَ يعني عريش أو أسماء الله الحسنى، فكيف يمكن فهم عبارة {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} التي جاءَ ذكرها بعد ذكرِ خلق السموات والأرض وقبل ذِكْرِ تدبير أمور الخلق في عدة آيات؟؟؟




لو تأملنا في الآيات السبعةِ التي جاء فيها الاستواء على العرش، نجد أنَّها تتحدث في سياق كوني عن ثلاثة أمور على نفس الترتيب:


الأمر الأول: هو خلق السموات والأرض.
الأمر الثاني: الاستواء على العرش.
الأمر الثالث: وهو التذكير بأنَّه تعالى "يدبر الأمر" وبأنَّ علينا الالتجاء به وحده. وبما قدمنا من تعاريف محتملة لـ "الاستواء" و لـ "العرش" نشير إلى أن:



الله تبارك وتعالى خلق السمواتِ والأرضَ في ستةِ أيامٍ من أيامه تعالى أو على ستة مراحل. طبعاً هذا الخلق لا يعكس إلا صفاتَ خالقه من حيثيةِ الإبداعِ والحسن والجمال والكمال والعظمةِ والإتساعِ والصبرِ والدقة والترتيبِ والمتانة والحكمة والعلم وما إلى ذلك من الأسماء الحسنى.



إلا أنَّ بعضَ الأسماءِ والصفاتِ الروحيةِ كالرحمةِ والحنان والحبِّ والودِّ والبِرِّ والرأفة والهُدى والستر والتوبةِ والعفو والمغفرةِ والتقديرِ والحكمةِ والعلمِ والرشدِ تستلزمُ وجودَ إحساسٍ معنويٍ وروحانيٍ في الخلق، مما يستلزمُ خلق "الحياة" التي من خلالها ستظهر هذه الصفات الربانية الرُّوحانية.



ففي أثناءِ الخلق المهيب كانت أسمائُه الحسنى تظهرُ تدريجياً وتستوي وتتجلى في الموجودات الجامدة من مجراتٍ عظامٍ شاسعةٍ وأجرامٍ سماويةٍ وأراضين وما عليها من جبال وأنهارٍ وبحارٍ وغازاتٍ وما إلى ذلك من خلائقَ جامدةٍ غاية في الإبداعِ والنظامِ والجمال والمتانة.



فظهرَ صبرهُ تعالى إذ بنيت السمواتُ والأراضينُ في عشرات الملياراتِ من السنوات ... وتجلت عظمتُه تعالى وسِعتُهُ من خلال الأبعادِ اللامتناهيةِ لهذه الأكوان، والتي تعجزُ الأعدادُ والأرقام عن وصفها، وإن رصت بجوار بعضها البعض إلى ما لا تتسع له الكتب والمجلدات ...



وظهرَت إلوهيتُه ووحدانيته تعالى من خلال خلقه الذي يَسْبَحُ كلُّ شيءٍ فيه حول مركزٍ واحدٍ ... وإبدائه وإنهائه إذ إنَّ كلَّ ما في السموات والأراضين يدور ويبدأُ ثمَّ يعودُ إلى ما كان عليه ...


وتجلى نورُه من الأنوار الهائلةِ اللانهائيةِ في شموسهِ ونجومه ... وقوتُهُ وجبروتُهُ في الإنفجاراتِ الكونيةِ الهائلة ... وعلمُهُ ولُطفُهُ وقدرتُهُ وإبداعُهُ وإحكامُهُ من التفاصيل الدقيقةِ المُحكمةِ المتناهيةِ في الصغر من خلقه ...


ولكن هذه الموجودات لا تعي ولا تشعر، وتتحركُ بدونِ إرادةٍ وإدراكٍ منها وفقَ قوانينَ دقيقة ثابتة لا تتغيرُ وضعها عزّ وجلّ فيها.


لذلك ظهرتِ الحياةُ تدريجياً – عبر الملايين من السنين - في الحياة النباتية ثم الحيوانية، إذ بدأت تظهرُ بعضُ الصفاتِ الروحانية، كحُبِّ الحيوانات لأبنائها، والشعورِ بالأمانِ والجوعِ والخوف، والودِّ وما إلى ذلك من صفاتٍ. كما ظهرت بعضُ الصفاتِ الحيوانية مثل القتلِ والجشعِ والوحشيةِ والأنانيةِ والخداعِ والمكرِ وما إلى ذلك من صفاتٍ حيوانية غريزيةٍ.


ثمَّ أخيراً خلق تبارك وتعالى الإنسانَ القادر على التعلم بنفسه وعلى تطوير قدراته ومداركه وصفاته الإنسانية العقليةِ والروحانية.


هذا الإنسانُ الآن على رأس هرمِ الخلقِ المهيب الشاسع العظيم يستطيعُ التمييزَ بين الخير والشرِّ، بين الحقِّ والباطل، بين الهمجيةِ الحيوانية الغريزيةِ الشيطانية التي يجدها في نفسه وفي الحيوانات من حوله، وبين الروحانيةِ الرَّبانيةِ التي يجدها أيضاً في نفسه وتتنزلُ إليه من السماء عن طريق الأنبياء.


هذا الإنسانُ قادرٌ الآن على تمييزِ الصفاتِ الإلهيةِ الخيرةِ وحملها وتطبيقها وإظهارها بحدوده الإنسانية وبقدرته وبفطرته التي أودعها الله تعالى فيه.


فبعد خَلْق الإنسانِ، أصبحتِ السموات والأرض وما فيهن قادرةً ومهيأة ومُستويَّةً (أي جاهزةً) على حملِ هذا الأمر العظيم وهذه تحديداً مرحلة "الاستواء على العرش" أي مرحلة "الظهور و التَجَلِي لأسمائه تعالى من خلال خلقه وآياته".



وبهذا يمكن تصور وفهم ذكر "الاستواء" على العرش، إذ إنَّ كلمة "استوى" تعني الوصول إلى الغاية بالتدريج المنظم المُقدَّر، وليس بالفجائيةِ الفوضوية العبثية التصادفية. فعندما تقول مثلاً "استوى العنب" فإنَّك تعني أنَّ استواءَهُ لم يكن فجأةً، بل تمَّ على مراحل عديدة تحت ملاحظتك.




ولأنّ العرش – من هذا المنظور - هو الأسماء الحسنى التي تظهر وتتجلى وتستوي وتتجسد من خلال خلق السموات والأرض، فنقول أنّ العرش هو خلق السموات والأرض ذاته المحكوم بالأسماء الحسنى، وعلى رأسها الخليفةُ الإنسان.

فنحن نعيش، بل نحن على رأس هذا العرش العظيم الكريم





وبهذا التصور والفهم نلقي الضوء على الآية السابعة من سورة هود:


وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ
وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً،
وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ {هود: 7} ...



وسنجيبُ على السؤالين التاليين:


1) كيف يمكنُ تصور وُجُودُ عرش الرحمنِ جلّ جلاله على مخلوق مادي وهو الماء؟ ولِمَ الماء؟


2) ما علاقةُ كونِ العرش على "الماء" بالابتلاء وعمل الإنسان {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}؟




فللسؤالِ الأول، نقدم التصور التالي:


1) لو تأملنا من منظور أن العرش هو الأسماء الحسنى التي تظهر وتتجلى وتستوي وتتجسد من خلال خلق السموات والأرض، فالعرش هو خلق السموات والأرض ذاته المحكوم بالأسماء الحسنى. فالعرش الملك، ولأن ملك الله عز وجل هو ملكوت السموات والأرض، فالعرش هو خلق السموات والأرض وما فيهن.



والآن لو كان "الماء" هو أصل "الحياة" كما جاء في سورة الأنبياء الكريمة:


وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآء كُلَّ شىء حى أَفَلَا يُؤْمِنُونَ {30}



فيمكن فهم معنى {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} أي "وَكَانَت أسمائُه الحُسنى (أي خلقه) عَلَى الحياةِ" ...




ولأنَّ الإنسانَ هو غايةُ الخلقِ وغايةُ الحياةِ وهَرَمُهَا، ولأنَّ الإنسانَ ما هو إلا خلقٌ مائي مِصداقاً لقوله تعالى:

وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً {الفرقان: 54}



لهذه الأسبابِ يمكن فهم معنى:


"وكان عرشه على الماء" أي


" كانت أسمائُه الحُسنى وخلقه وملكه عَلَى الإنسان المائي وعلى حياته"



فما معنى " وَكَانَت أسمائُه الحُسنى وخلقه عَلَى الإنسان وحياته"؟


كلمةُ (عَلَى) هنا يمكن فهمها بمعنى الأمر والعلو والهيمنة كأنْ تقولَ (عَلىَّ دينٌ) و (عَليك فعلُ ذلك) و (عَلينا أميرٌ). أي أنَّ أسماءَ الله تعالى الحسنى وصفاته ومشيئته وإرادته على الإنسان وعلى حياته. فأمرُه وقَدَرُهُ علينا، ورحمتُه وكرمُه وإحسانُه وعِزَّتُه وهُداهُ وفضلُه، ومنَّتُه، وَوِدُّهُ، وصبرُهُ، وحِلمُهُ، وسِترُهُ، ومغفرتُهُ، وسمعُهُ وبصرُهُ وعينُهُ وما إلى ذلك من الصفات العُلى والأسماء الحسنى علينا نحن البشرَ، رمزُ الحياةِ ورمزُ الماءِ ...


فهي علينا لأننا حملنا هذه الأمانة العظيمة كما جاء في الآية الثانية والسبعين من سورة الأحزاب:


إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا
وَحَمَلَهَا الْإنسنُ، إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً {الأحزاب: 72}




وللسؤالِ الثاني (ما علاقة كونِ العرش على "الماء" بالابتلاء وعمل الإنسان؟ )، نقدمُ التصور التالي:



2) هل سيتأثر عملنا لو كان العرش على غير الماء؟ ليس هذا وحسب بل كيف سيُحاسِبنا الله تعالى على أعمالنا بمقتضى وضع العرشِ الجديد لو كنا لا نعلم الوضع القديم فضلاً عن الجديد؟



وهل نحن الذي يقررُ بإرادته شكلَ عرشِ الله تعالى الجديد وصفاته وماهيَّته؟


من يفهم أن عرشاً مادياً موضوعاً على الماء المادي بعيداً عنا لا نراه يلعب أي دور في ابتلائنا وفي أعمالنا؟




أمّاَ لو قلنا بالتصور المحتمل أنَّ معنى {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} هو "وَكَانَت أسمائُه الحُسنى عَلَى حياتكم" ... فيمكن فهم معنى أنَّ أسماءَ الله تعالى الحسنى وصفاته ومشيئته وإرادته علينا وعلى حياتنا. فعلينا أنْ نعيشَ تحت ظلِّها ونتعلمَ منها ونَستنيرَ بها وبهديها وعلينا أنْ نتعبدَهُ بها ونهتدي بِهديها ونجعلَهَا مثلاً أعلى لنا ...



فالعبادةُ ترتبطُ ارتباطاً وثيقاً بأسماء الله الحسنى. بل ولهذا السبب يمكن فهم ورود ذِكْرُ الأسماء الحسنى في العديد من الآيات في القرآن. فمن الذي يُحْسِنُ العملَ بغير فهم صحيحٍ لأسماء الله الحسنى؟


وَلله الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {الأعراف: 180}




إذن يمكن فهم قولُه تعالى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أي لِيرَى جلّ جلاله من سينتفع بهذه الصفات ويستنير بها ومن سيُغمض عينه ويقفل قلبه ويحجب سمعه عن أسماء الله تعالى وصفاته المتجلية في آياته وبديع صنعه ...



وكم هو بديعٌ هذا السباق ... فكما تتسابقُ الملايينُ من الحيواناتِ المنويَّة في رحمِ المرأة للحصول على البويضة الوحيدة لتحظى بالحياة الدنيا، فالملايينُ من البشر يتسابقون في رحمة الله تبارك وتعالى للحصول على جنة النعيم في الحياة الآخرة ... اللهم برحمتك فاجعلنا من الفائزين ...



بل وكأن أمره جلّ جلاله { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } ظاهرٌ بينٌ حتى في خلقه تعالى! فعندما تسقط كتلة ما من أي مادة على ماء ساكن، يتطاير الماء ويتناثر حول نقطة السقوط على شكل وصورة "تاج الملك" كما يظهر في الصور الحديثة. فسبحان الخلاق العليم القدير.



وليس هذا الأمر الإلهي – بطبيعة الحال - خاصاً بأمةِ الإسلام، بل هو أمرٌ على جميع الأمم:


صِبْغَةَ اللهِ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً، وَنَحْنُ لَهُ عَبِدُونَ {البقرة: 138}


فالصَبْغُ هو الدَّهْنُ والغَمُسُ. وصَبَغَ اللقمة أي دهَنَها وغَمَسَها. والمَصْبُوغُ هو كلُّ ما غُمِسَ. وفي الحديثِ الشريف فيُصْبَغُ في النار صَبْغَةً أي يُغْمَسُ غَمْسَةً. ومنه : صَبْغُ النصارى أولادهم في ماء لهم.


والصِبغةُ هي الفطرة والمِلَّة والشريعة. فمن هذا المنظور يكون معنى الآية {138} من البقرة: اعلموا وأدركوا صِبغةَ الله واختاروها لكم واتبعوا السبيل الذي هداكم إليه والفطرة السليمة التي فطَرَكم اللهُ تعالى عليها وأرشدكم إليها عن طريق الأنبياء الذين جاء ذكرهم في الآيات السابقة. فكلمة {صِبْغَةَ اللهِ} مفعول به لأن فعل الأمر "اصطبغوا" حذف قبلها، والتقدير هو: اصطبغوا أيها الناس واعرفوا واتبعوا {صِبْغَةَ اللهِ} وُحققوا الصِّبغةَ والصفات الإلهية في أنفسكم لتصبحوا مظهراً ومثلا من مظاهر أسماء الله تعالى ...




إنَّ الاصطباغ بصبغة الله تعالى فطرةٌ أساسيةٌ نجدها في جميع الخلق من حولنا. فكما يأمرنا تعالى في كتاب القرآن الكريم بالاصطباغ بصبغته، فكتاب الخلق المبين من حولنا يأمرنا بنفس الشيء. فالكائِناتُ الحيَّةُ تتأقلمُ وتتَكيَّفُ دوماً بظروف البيئةِ من حولِها. فالفراشاتُ تصطبغُ وتتلونُ بلون الأغصان والزهور في بيئتها ...



والصائداتُ تتماهى بصبغة ما حولها كي تنقضَ على فرائسها ... والفرائسُ تصطبغ بلون بيئتها كي تتخفى من آكليها ... والطيورُ تتبختر مُغردةً طائرةً فرحةً بتناسقِ ألوانها بألوانِ غاباتها ...



كما إنَّ أحد أهم الظواهر الفيزيائية هو إنتشار المحاليل السائلة بأنواعها وتغلغلها بنظام عجيب في الأوساط المحيطة بها ... وما إلى ذلك من مشاهد وشواهد لا نهائية تبينُ تأثر الكائِنات الحيَّة وتأقلُمِها وتماهيها وتغيرها بالبيئة المحيطة بها ...




وفي الخلاصة، يكونُ بما سبقَ يمكن فهم معنى الآيةِ السابعة من سورة هود:

وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ (( وكانت رحمتُه وهُداهُ ومغفرتُهُ وسمعُهُ وبصرُهُ وسائرُ أسمائه الحسنى متمثلةً بآياته على حياتكم وتدبير شؤونكم)) لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ((ليعلمَ من منكم سيصطبغُ بصبغة الله ومن منكم سيكون مُظهراً لأسماء الله تعالى ومُستنيراً بها)) ، وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ {هود: 7} ...



والآن نتأمل بعض الآيات التي جاء فيها ذكر عرش الرحمن عزّ وجلّ على ضوء المفهوم المحتمل الذي ذكرناه:



رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ: يمكن فهمها بمعنى رَبُّ الخلق الْعَظِيمِ وصاحب الأسماء الحسنى العظيمة ... وخلقُ السموات والأرض "العرش" مُشاهدٌ محسوس عظيم في كل أمر ...


عظيمٌ في اتساعه وأبعاده وقوته وشدته وطاقاته وتفاعلاته، في كبيره وصغيره، وتنوعه وتشكله وعدده وحسابه وإحصائه، وإبداعه وإعجازه وعجائبه، وخلقه وجماله وتصويره ولُطفه وكماله وتألقه، وأنواره وظلماته، وبساطته وتعقيده، وترابطه وترتيبه ودقته ومتانته وإحكامه ونظامه، وحُسْنه واتقانه وتوقيته واستمراريته، وإظهاره وإبطانه وإبدائه وإنهائه، وأحداثِه وعُمُرِه، وحركاته وسُكُونِه ...



عظيم في حبّه ووده وشوقه وعطفه ورحمته وآلامه وأحزانه من خلال قصص مكوناته وحياتهم وذكرياتهم وأسرارهم على مرِّ الدهور الطوال ... فمن لا يرى عظمة هذا "العرش العظيم"؟




رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ: يمكن فهمها بمعنى رَبُّ الخلق الْكَرِيمِ وصاحب الأسماء الحسنى الكريمة ...

وهو خلق كريم والكريم لا ينتهي عطاءه. وكرم الخلق يعني توالده وتكاثره تلقائياً بذاته كما نرى ونشهد من تكاثر النجوم والمجرات وتوالدها من بعضها البعض، ومن زيادة اتساع الكون ونموه:

وَالسَّمَاء بَنَيْنها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ {الذاريات:47}.


والكائنات الحية تتكاثر بغزارة وكرم. بل إنَّ غريزة حفظ النسل واستمراريته جزء من هذا الكرم:

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ {الشعراء:7}.


وكرم هذا الخلق يتجلى في ملايين الأنواع والفصائل من الكائنات الحية والمنقرضة التي زخرت وازينت بها الأرض عبر مئات الملايين من العصور والدهور الطوال ...


وفي أعداد وأنواع مجتمعات الكائنات الحيّة ولغاتهم وطرق تواصلهم وعاداتهم وثقافاتهم وتاريخهم وطرق حياتهم عبر الدهور ... وفي عطاء الأرض من الخيرات والأرزاق والموارد والإحتياجات ... فمن لا يرى كرم هذا العرش؟



ذُو الْعَرْشِ: أي ذو الخلق والأمر وصاحب الأسماء الحسنى ...



وعن قوله تعالى:


وَتَرَى الْمَلَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِى بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَلَمِينَ {الزمر: 75}


أي أنَّ الملائكة حافِّين من حَوْلِ الخلق والأكوان ...




وعن قوله تعالى من سورة غافر:



الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ {غافر: 7}



الحَمْل ليس بالضرورة الحملِ المادي. بل معنوي أيضاً، كأنْ "يحمل الإنسان همَّاً أو علما" ...



وحمل الشيءِ يعني كذلك فهمه وإدراكه وتطبيقه والأخذ به على محمل الجد كما في قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ... {الجمعة: 5} ...



أو كقوله من الأحزاب: إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإنسنُ، إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً {الأحزاب: 72}



فالحملُ في {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} بمعنى "حَمْل الإنسان وإدراكه لأسماء الله تعالى ولمعانِيها العظيمةِ" وهؤلاء هم الأنبياء والصالحون الذين يستغفرون ويدعون للناس بالخير كما هي عادتهم. لاحظ أنَّ الآية السابقة {6} من غافر تتحدث عن {الَّذِينَ كَفَرُوا} فتتحدث إذاً الآيةُ {7} عن "الَّذِينَ ءامنوا" ... وهذا لا يعني أنَّ الملائكة الكرام لا يدعون ويستغفرون للناس أيضاً ...





في الحقيقة لم أفصل في الموضوع بدراسة جميع آيات الاستواء العرش واحدة واحدة، واكتفيت بالتفصيل بآية سورة هود الكريمة. والسبب عدم الرغبة بالإطالة. لكن فيما يلي سأستعرض سريعا سياق آيات الاستواء من سورة الفرقان والتي تشير إلى صحة ما ذهبت إليه:


وَهُوَ الذى خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً {54} وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكفر على رَبِّهِ ظَهيراً {55}‏ وَمَا أرسلنك إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً {56} قُلْ مَا أَسلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً {57} وَتَوَكَّلْ على الحى الذى لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً {58} الذى خَلَقَ السموت وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى على الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَسْـءـلْ بِهِ خَبِيراً {59} وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً {60} تَبرك الذى جَعَلَ فِى السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً {61} وَهُوَ الذى جَعَلَ اليل وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً {62} وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ على الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خطبهُمُ الْجهلونَ قَالُوا سلماً {63} وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً {64} وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً {65} إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً {66} وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قوماً {67}



فتأمل ما يلي من السياق الكريم:


ذكر أن الإنسان ماء (الآية 54)


نصح وتذكير لهذا الماء (الآيات 55 – 58}


ذكر خلق السموات والأرض والاستواء على العرش (آية 59)


ذكر خلق السموات والأرض والنصح والتذكير (الآيات 60 – 67)



فلاحظ السياق الذي يجمع بين خلق الإنسان من ماء بذكر الاستواء على العرش والتذكير والنصح. فجميع الآيات أعلاه – بما فيها الاستواء على العرش – تتحدث عن الإنسان ... غاية الخلق وهرمها ... الماء ...



ليس هذا وحسب. إذ نجد أن الاستواء على العرش (الآية 59) محاطا باسمه تعالى "الخبير" قبل وبعد الاستواء على العرش مباشرة:

... خَبِيراً {58} الذى خَلَقَ السموت وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى على الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَسْـءـلْ بِهِ خَبِيراً {59}




والشاهد هنا أن اسمه تعالى "الخبير" تعني "الإخبار". فمن اللغة: الرجل يخبر فهو خبير. فمعنى وضع آية الاستواء على العرش بين كلمتي "خبير" هو أن هذا العرش والاستواء "يخبركم" عن الله تعالى وعن أسمائه الحسنى إذ إن أسمائه تعالى الحسنى تتجلى وتظهر في هذا الخلق وهذا الاستواء. وعليكم أيها الناس أن تتعظوا وتتعلموا من الخلق حولكم كي تعبدوه ةتعرفوه حق معرفته: وَهُوَ الذى جَعَلَ اليل وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً {62}



فاللهُ سُبحانَهُ "لطيفٌ خبيرٌ" وقد تكررَ ورودُ هذين الاسمين مُترادِفينِ في عدةِ أماكنَ من القُرآن .... فلماذا؟


"اللطيفُ" تعني الرفيقُ والحنونُ ولكنَّها تعنى أيضاً الخَفِيُ، فمَا لَطُفَ من الكلام هو ما غَمُضَ مَعناه وخَفِيَّ ...


أمَّا "الخبيرُ" فتأتي بمعنى المُجَرِبِ، لكنَّ الأصحَّ في حقِّه تعالى هو "المُخْبِرُ العارِفُ الذي يأتيكَ بالخبرِ، فهو خبيرٌ " ... إذ لا يُجرب سبحانه كالناس ...


فيكونُ معنى "اللطيفِ الخبيرِ" أي الذي يُخْبِرُكَ بطريقةٍ خَفيَّةٍ غيرِ مباشرةٍ ... إشاراتٍ بالكادِ تراها ... لَمَحَاتٍ من هنا وهناك ... إيحَاءاتٍ بسيطةٍ ... وبأمثلةٍ تستدعي التفكرَ والتأملَ والعلمَ والإدراكَ ... ولأنَّه سُبحانَهُ "الخبير" وليس كمثلِه شيءٌ، فإخْبَارُه يكونُ بكُلِ شَيءٍ، ولكن كثيرا ما لا نفطن إلى هذه الأخبار ...


فلو أرادَ سُبحانَهُ أنْ يُخْبِرنا شيئاً فلابدَّ وأنْ يخبرَنا عنه ويُعَلِمَنا إيَّاهُ بلُطفٍ يتناسبُ مع لِطفِه، وهو اللطيف الخبير. فبدلاً من التعليم المباشرِ، يضعُ لنا في الخلقِ أسئلةً وإعجازاتٍ تستوجبُ التفَكُّرَ حولَ هذا الشيءِ ... فتبرُزُ أهميةُ الشيءِ المُرادِ تَعَلمهِ من خلال وضْعِه في أسئلةٍ يتفَكَّرُ الناسُ بها، ويَبذلونَ جُهدَهُم لِحلِها، فيتعلموا، فيتحققَ الهدفُ ....






وأخيراً في هذا الموضوع، فإنَّ آخر سورة في المصحف هي سورة الناس، وآخر كلمة في المصحف هي {النَّاسِ} ... فما معنى هذا؟ ولماذا؟ ولماذا تكررت كلمة الناس في آخر سورةٍ 5 مراتٍ؟




قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ {1} مَلِكِ النَّاسِ {2} إِلَهِ النَّاسِ {3} مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ {4} الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ {5} مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ {6}




من منظورنا يكمن الجواب في اسم السورة "الناس".



فالنَّاس رأسُ الهرمِ في الخلق المائي المَهيبِ المُتضمِنِ لجميع الكائنات الحية التي خلقها البارئ تبارك وتعالى منذ أقدم العصور.


ولسببِ أنَّ الإنسان هو الحامل والمُظهرُ لأسمائه الحسنى تبارك وتعالى، تكون آخرُ سورةٍ وآخر كلمةٍ في المصحف هي {النَّاس}.


أي إنَّ القرآنَ الكريم بمجملِه من أولِه إلى آخرِه يحوي العرش وتفاصيلِهِ {أسماء الله تعالى الحسنى} ويشمل أوامره ونواهيه "عرشه" تعالى التي هي "على" "الناس".



بمعنى إنَّ القرآن يشرح العرش ويأتي فوق أي على الناس، ولهذا يمكن فهم كون آخر سورة وآخر كلمة هي ذكرُ الناس الذي عليهم أنْ يحملَوا العرش في قلوبهم ... كما يحملون القرآن فوق رؤوسهم ...



والحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على سيد الخلق النبي الأمين المصطفى
ملء ما ظهر وتجلى الرحمن على العرش واستوى



صورة العضو الشخصية
Princess
مشرف
مشاركات: 2948
اشترك في: الأحد سبتمبر 25, 2011 5:35

Re: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ : أي تجلى سبحانه من

مشاركة بواسطة Princess » الجمعة فبراير 10, 2012 5:19

موضوع ممتع جدا
بس في نقطتين بدي استفسر عنهم :
اولا :
ذكرت انو الله سبحانه وتعالى لا يذكر اي شيء يفوق مداركنا وقدراتنا
ولكن ذكر الله عز وجل للحروف قي بداية بعض السور مثل الم
ولم نفهم معناها
ما الهدف ؟؟

ثانيا :
بالنسبة لسورة الناس وترتيبها في اخر القران
انا اعرف ان الصحابة هم من قامو بترتيب القران , فاذا ممكن توضحلي
من قام بترتيب القران وعلى اي اساس ؟ واذا كان من ترتيب الصحابة فلا يوجد به اعجاز اذن

وشكرا جزيلا لك على مواضيعك الرائعة

د نبيل أكبر
عضو نشيط
عضو نشيط
مشاركات: 54
اشترك في: الجمعة أكتوبر 07, 2011 4:06

رد: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ : أي تجلى سبحانه من

مشاركة بواسطة د نبيل أكبر » الأحد فبراير 12, 2012 9:54

أختي الكريمة jewel

أنا سعيد جدا بسؤالك الكريم ولتمعنك في مقالاتي ... فشكرا لك.

بالنسبة لترتيب سور القرآن في المصحف الشريف وكذلك آياته الكريمة فهي "توقيفية" أي منه تعالى بالوحي للنبي الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم. لا خلاف بين الناس في هذا.

وبالنسبة إلى قولي أنه تعالى لا يخاطبنا إلا بما ندرك فذلك صحيح. لأن الحكمة تتطلب ذلك فالقرآن لنا نحن البشر.

ففيه من العلوم والأسرار ما لا يمكن حصره وإدراكه، لأنه ببساطة كلام رب العالمين.

يعني سبحانه وتعالى يظهر أسمائه الحسنى لنا نحن الناس في القرآن وكذلك في الأكوان.

فمثلا اسمه تعالى الرحيم نجده حين نتراحم مع بعضنا البعض وحين نحب أبنائنا وما إلى ذلك.

واسمه تعالى "الكبير" نجده طبعا عند مشاهدة هذه الأكوان الكبيرة العظيمة، وهكذا لجميع الأسماء الحسنى الأخرى.

والآن: لأن من أسمائه تعالى "الباطن" فإننا نقول أن هناك أمورا مبطنة في القرآن وفي الأكوان، على غرار الأسماء الحسنى الأخرى.


لكن بطبيعة الحال، فهو تعالى لن يكلفنا بما لا طاقة لنا بعمله أو بإدراكه. لكن إدراكنا نحن البشر يزداد مع الزمن ومع تراكم العلوم والخبرات كما تلاحظين هذه الأيام من انتشار العلم في جميع الأرض بنقرة اصبع.

فيبقى في القرآن الكريم كثير من الأسرار للأجيال القادمة وكل جيل له القدرة على اكتشاف أمور جديدة في القرآن.

أنا أقول وأجزم أنه ولو بعد ترليون سنة من البحث والتقدم، فلن نكشف جميع أسرار القرآن، بل ولا حتى أسرار سورة واحدة منه ...

فتلك هي عظمة الله تبارك وتعالى يأختي الكريمة ...

وشكرا وتقديرا دوما للتواصل الكريم


صورة العضو الشخصية
Princess
مشرف
مشاركات: 2948
اشترك في: الأحد سبتمبر 25, 2011 5:35

Re: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ : أي تجلى سبحانه من

مشاركة بواسطة Princess » الخميس فبراير 16, 2012 5:04

شكرا شكرا عالتوضيح
مواضيعك مميزة وتستحق القراءة
ننتظر جديدك

أضف رد جديد

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 14 زائراً