القدر: خيره ... وما نحسبه شرا ؟ ولم الشقاء ولم العذاب؟

تفسير وأحكام وقصص من القرآن الكريم

المشرف: manoosh

أضف رد جديد
د نبيل أكبر
عضو نشيط
عضو نشيط
مشاركات: 54
اشترك في: الجمعة أكتوبر 07, 2011 4:06

القدر: خيره ... وما نحسبه شرا ؟ ولم الشقاء ولم العذاب؟

مشاركة بواسطة د نبيل أكبر » الخميس مارس 15, 2012 1:10

بسم الله الرحمن الرحيم


مواضيع القدر وهل الإنسان مخير أو مسير والشر وعذاب الناس في الدنيا وفي الآخرة ولماذا خلقنا الله تبارك وتعالى، هذه المواضيع كانت ولن تزال مسرحا للنقاش والاختلاف والفكر على مدار التاريخ. وذلك لأهميتها البالغة. تكلم في الموضوع مؤمنين وغير مؤمنين، وخصوصا المفكرين والفلاسفة.

كثير من الناس ضل بسبب سوء فهم هذه المواضيع. وكثير ألحد.

هذه من الأسئلة التي تدور ببال كل الناس، فيقف الواحد منا خائفا وكأنه أمام بئر عميق.

إن هذه المواضيع من العقيدة وبالتالي يجب على الناس إدراكها وفهمها وحملها بشكلها الصحيح. وسأتكلم تاليا عن هذه المواضيع وأبين وجهة نظري فيها باختصار.

فكثيرا ما ضاعت حقوق الناس وخاصة الضعاف والجهلة منهم باسم أن القدر مكتوب وأن لا داعي للمطالبة بالحقوق إذ إن الأمور مكتوبة مسبقا.

وكثيرا ما اتخذنا الكسل والاتكالية منهجا في الفكر والعلم والعمل والبناء وأهملنا الأخذ بالأسباب لمنع الأخطاء والكوارث على المستوى الفردي أو الأممي لسوء الفهم المتوارث حول أمور من العقيدة.

لا أزال أذكر كيف أن قرابة 1300 إنسان مسلم منا تركوا لأسماك القرش في غرق العبارة المصرية قبل بضعة سنوات ولم يعد لقصتهم أي شيء يذكر أو عبرة ودرسا تستذكر ...

بينما غرق حوالي 300 شخص في سفينة التيتانك في أوربا قبل حوالي قرن من الزمان ولا تزال قصصهم وما حدث بسفينتهم من أخطاء ... لا تزال تملأ الدنيا كتبا وأفلاما وأبحاثا ...

نسترخص حياتنا وفكرنا وعقلنا وقدرتنا على الإنجاز، فكيف ننجز وكيف نبني بهذا الفكر؟


كتابة القدر وهل الإنسان مخير أم مسير ؟


الإنسان يحاسب في الصغير وفي الكبير. فهو إذن مخير كليا في الصغير والكبير.

لكنه مخير ضمن حدوده التي وضعه القدير تعالى فيها و يحاسب على هذه الأمور المخير فيها فقط.

فليس مخيرا في مواصفته الجسدية العائلية والزمنية وما إلى ذلك من الأمور التي هي خارجة عن إرادة الإنسان. لكنه في نفس الوقت ليس مسئولا عن هذه الأمور والأقدار التي ليس له فيها قرار.


بمعنى ومثل بسيط: ممثل فلم طلب منه أن يلعب دور الطبيب. هو لا يستطيع لعب إلا هذا الدور، لكن داخل دوره له كامل الحرية في فعل ما يراه مناسبا.
هذا الطبيب وأثناء قيامه بدوره نعرض عليه دوما مواقف جديدة لنختبره وننظر ردود فعله وتصرفه إزاء كل موقف، ومن ثم نقوم بتقييمه.


فعند تقييم هذا الممثل لا نقيمه على أنه الطبيب، ولكن نقيمه على أداءه وتفاعله في هذا الدور المحدد له.



والآن هل الأمور مقدرة مسبقا عنده تعالى، أي هل قدر تعالى مسبقا أداءنا في هذه الأدوار؟


الجواب نعم. الله سبحانه وتعالى يعلم تماما وبكل دقة تفاصيل أداءنا لأدوارنا من قبل أن نقوم نحن بأدوارنا.
وهذا طبعا من علمه وعظمته، سبحانه وتعالى.


أعطي مثالا بسيطا يوضح هذه النقطة: أنا مدرس وعندي طلبة. من فراستي وخبرتي أعلم الطالب المجتهد فأضعه مسبقا في الصف الأول، وأعلم الطالب الشقي فأضعه في الخلف في مكانه المناسب. دوما نفعل هذا.

من خبرتي كذلك أعلم أن الطالب المجتهد سيدرس وينجح وأعلم أن الطالب الكسلان سوف يرسب. أنا لست الذي جعله يرسب. أنا درست الطلاب جميعا، منهم من نجح ومنهم من رسب، ولكني من أول يوم دراسي كنت أعلم هذا من ذاك.

فالله تبارك وتعالى خلق "الأنفس الإنسانية" أو هي في العلم الغيب عنده تعالى، وهذه الأنفس هي نحن ليس بالجسد والتي ذكرها تعالى في الكثير من المواضع من المصحف الشريف، منها على سبيل المثال:


يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (النساء:1)

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الزمر:42)


من هذه الأنفس الطيب الخير ومنها الشرير المستكبر.

ثم خلق تعالى السموات والأرض، ثم الكائنات الحية، ثم أخيرا جنس البشر.

ثم بدأ سبحانه بعث الأنفس إلى الأجساد (أو الأدوار). النفس الطيبة تذهب إلى الدور الطيب (نبي، صالح، ...) والأنفس الشريرة تذهب إلى الأدوار الشريرة (فرعون، أبو لهب، ...) وما إلى ذلك من أدوار ...


فكل يلعب دوره كما كان "يَعْلَمُه" تعالى بعلمه.



والآن، لو كانت الأقدار مكتوبة فلم العمل والعبادة والدعاء؟ وهل الدعاء يغير المكتوب.


الأقدار معلومة عنده تعالى وثابتة لا تتغير. يقال أنها تتغير في ليلة القدر، وهذا لا يستند إلا على تفسير غير دقيق للآية 39 من سورة الرعد الكريمة:

يمحوا الله ما يشاء ويثبت، وعنده أمّ الكتب { 39}


فقيل أن المقصود بالمحو في الآية هو تغير الأقدار حسب الدعاء أو حسب الأعمال السيئة. بالنسبة لي هذا لا ينبغي في حقه تعالى فهو الحفيظ المقيت القدير العليم. إذ الله تعالى أكبر من أن يغير شيئا صغيرا أو كبيرا قدره. هذا إشكال عقدي كبير.


وقد أفردت موضوعا كاملا عن أم الكتاب منشور باسم : أم الكتاب. وقلت فيه أن أم الكتاب التي جاء ذكرها في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم هي حرف ألف المد.

فالأحرف والكتابة تمحى وتمسح من مكان لتوضع وتكتب وتثبت و ترسم في مكان آخر من المصحف.

كأن يمحى حرف الألف "أم الكتاب" من رسم كلمة "سبحن" في أربعين موضعاً في المصحف ويظهر ويثبت في موضع واحد فتكتب "سبحان" في الآية 93 من الإسراء: قل سبحــا ن ربّى هل كنت إلا بشراً رسولا {93} ...


أو أن يمحى من كلمة " كتاب" فترسم "كتب" في جميع المصحف (252 موضعاً) ليظهر ويثبت في أربعة مواضع فقط فترسم "كتاب" ...



أو أن يمحى من كلمة " قرءنَا " في موضعين:


من الآية 3 من الزخرف: إِنا جعلنه قرءنَاً عربيّا لعلكم تعقلون {3}
ومن الآية 2 من يوسف: الر تلك ءايت الكتَب المبين {1} إِنا أنزلنه قرءنا عربِيّا لعَلكم تَعقلون {2}

ليظهر ويثبت في جميع المواضع الأخرى (68 موضعاً) برسم " قراءنا " ...



فمن منظورنا يكون المقصود بقوله تعالى { يمحوا الله ما يشاء ويثبت، وعنده أمّ الكتب }


أي يمحوا تعالى أحرفاً من مكان في المصحف ويثبتها في آخر، وليس الأقدار.


وعنده أي بملكه هذا الكتاب ((ا)) الذي هو أم الكتاب. فيضعه سبحانه أينما شاء في القرآن، ويحذفه مما شاء ...


ولا يمكن فهم { وعنده أمّ الكتب } بالموقع والمكان الجغرافي! فالله سبحانه لا يتجسد في مكان ليكون هذا الكتاب بقربه ... سبحانه وتعالى ...



وقد تكلمنا عند دراستنا للآية 39 من سورة الرعد في بحوثنا عن أن هذه التفاسير فيها إنقاص من قدره تعالى، إذ لا يحتاج سبحانه وتعالى لكتاب أقدار أو إحصاء أو جرد كما هو حالنا نحن البشر ... فالله تعالى أعلم وأقدر وأحفظ من أن يحتاج إلى كتاب إحصاء كي لا تضيع منه الأشياء، جلّ جلاله ...



كما قيل عن "الكتب المبين" الذي جاء ذكره في بعض الآيات القرآنية الكريمة أنه كتاب في علم الله تبارك وتعالى فيه أخبار وإحصاء كل شيء مخلوق ومقدر ... ما كان وما سيكون ...

لكن كيف نفهم حاجة الله تعالى إلى كتاب إحصاء؟ فالله تعالى أعلم وأقدر وأحفظ من أن يحتاج إلى كتاب إحصاء كي لا تضيع منه الأشياء، سبحانه وتعالى.

بل إن كل الخلق هو بحد ذاته كتاب، وهذا الكتاب كامل لا تفريط فيه ولا نقصان، وهو ما تنص عليه الآيات الشريفة ذاتها ....

ولقد تكلمنا في موضوع :الكتب المبين بالتفصيل عن هذه القضية.


وقلنا إن الخلق الكوني بسماواته وأراضيه "كتاب" كما يتوافق مع سياق النص القرآني:


وما من دابة فِى الأرضِ ولا طئر يطير بِجناحيه إلا أمم أمثالكم، ما فرّطنا فى الكتَب من شىءٍ، ثم إِلى ربّهِمْ يحشرون {الأنعام:38}


ما فرّطنا فى الكتَب من شىءٍ ، أي :

ما فرّطنا فى (الخلق) من شىءٍ.


وهذا التأويل أقرب إلى سياق الآية والعقل والواقع.


فكلمة "كتب" في عدة مواضع في المصحف الشريف هي خلق السموات والأرض على سبيل المجاز والاستعارة. ولقد استخدم القرآن الكريم المجاز والاستعارة كثيراً كما نستعملها نحن البشر.



فالأقدار لا تمحى ولا تتبدل.


لكن نحن لا نعلم هذه الأقدار بطبيعة الحال، فعلينا العمل إذن وكأننا نحن الذين نكتب هذه الأقدار، نكتبها بأعمالنا. فنحن من نكتب أعمالنا وأقدارنا بأنفسنا وأعمالنا ويدخل في العمل كل شيء من دعاء وعبادات وأعمال صالحة، وما إلى ذلك.


وكل ذلك، صغيره وكبيره معلوم عنده تعالى منذ الأزل في علم الغيب عنده.


وليست أعمالنا نحن الناس هي المعلومة عنده تعالى وحسب.

فكل حركة في عمر هذا الكون المديد في عمره واتساعه وتعقيداته ... كل حركة أو تفاعل (كيميائي مثلا) ... كل ذرة أو مكوناتها الصغيرة ... كل ذلك في علمه الأزلي قبل أن تخلق السموات والأرض ... سبحانه وتعالى ...



تأمل فقط في هذه النقطة ( . )

هذه النقطة على الشاشة تحوي الملايين من الذرات، وبكل ذرة ما لا يحصى في المكونات. كل هذه المكونات التي تكون ذرة واحدة معلومة عنده تعالى ليس بوجودها الحالي وحسب، بل أين كانت هذه المكونات قبل مليارات السنوات ... كل منها معلوم عنده تعالى ما فعل وأين تحرك وبم اصطدم خلال المليارات من السنوات ...

وتقدير ذلك كله وخلقه يسير عليه ... سبحانه وتعالى ... كبير عظيم عليم حكيم ... فترى ما جماله وأنواره ... سبحانه وتعالى ...



لم الشر والمرض والعذاب؟


كل الخلق ابتداء من الجماد بجميع أنواعه وحجومه (من مكونات الذرة إلى الحشود المجرية)، إلى الكائنات الحية بجميع أنواعها وفصائلها وتاريخها، كل هذا الخلق في صراع مستمر دموي ضاري كما فصلت فيه في مقال منشور بعنوان (أين أنت من هذا السباق).

هذا الصراع الفطري إشارة منه تعالى لنا نحن الناس أن تسابقوا في مرضاة الله تعالى والقرب منه:

وسارعوا إِلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموت والأرض أعدت للمتقين {آل عمرن:133}

سابقوا إِلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرضِ السماء والأرضِ أعدت للذين ءامنوا بالله ورسله
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضلِ العظيم {الحديد:21}


فحب السيطرة والانتشار والغزو والبقاء والتنافس الذي نجده في الأفراد والعوائل والقبائل والشعوب هو نتيجة طبيعة لهذه الفطرة التي نجدها في كل الخلق من حولنا.


طبعا على الناس أن تفهم المغزى من هذا الصراع لكي تسير في الاتجاه الصحيح. على الناس أن يتنافسوا على الخير والحق لا على الشر والباطل.

عليهم أن يدركوا الهدف من السباق كي يصلوا آخره.

إلا أن الناس تنسى ولا تدرك هذه الأمور فتضل.


نأتي الآن على السؤال الأهم وهو لماذا جعل الله تعالى الشر أصلا؟

كل منا سأل نفسه كثيرا هذا السؤال. لم الشر؟ لم المرض والموت؟ لم الفقر والقتل والظلم؟ بل والأهم من هذا كله لم النار يوم الحساب؟


لم المرض والموت؟

عدة أجوبة: المرض أو الموت يعلمنا معنى الصحة، يجبرنا المرض أن نتعلم الطب والكيمياء والصيدلة، فنعرف الله تعالى أكثر فنقترب في السباق أكثر.

يمرض أو يموت الإنسان أو عزيز له فيعاني ويصبر فتسقط منه ذنوبه كورق الشجر في الخريف، فيرتفع الإنسان بصبره ومعاناته، فيتقرب من الله تعالى أكثر.

بالمرض والموت نشعر بالحياة وبالحزن والحب والإخلاص والخوف.

ندعو الله تعالى لمرضانا ولموتانا فيرفعهم الله تعالى، ويرفعنا معهم بالأجر.

لو لم يمرض الإنسان ويموت لأصبح طاغيا مستكبرا مفسدا فيبتعد عن الله تعالى فيخسر السباق. الإنسان يتكبر بأمراضه وشيخوخته وضعفه وموته، فما الحال لو لم يكن كذلك؟


فالمرض أو الموت شر بحد ذاته، لكنه في المنظور البعيد خير.



والشيء نفسه يقال عن الشرور الأخرى. فلو ترك الإنسان بلا حروب وأمراض. لو ترك في جنة الأرض بلا موت ومعاناة فإنه لا محالة سيتكاسل ويركن إلى الدنيا ويفقد أحاسيسه ومشاعره تجاه نفسه والآخرين والدنيا والله تعالى فيفسد نهائيا.

في الحقيقة لا يمكن لي أن أتصور شعبا يستطيع الصمود في الحياة بنعيم دائم، إذ سيفسد الشعب كله وينتهي في غضون عقود.

فالمعاناة ومنها المرض شر لكن الهدف كله خير. فالله تبارك وتعالى لا يأتي منه إلا الخير، والخير فقط.



وكذلك مثلا شر الأذية. أذية الناس أفرادا وقبائل وشعوبا لبعضها البعض خير وضروري!!!

فكما إن المرض جعل لرفع الصابرين المؤمنين وقربهم منه تعالى في الآخرة، فالكفر وأذية المؤمنين جعلت لرفع المؤمنين وقربهم منه تعالى.


فالكفر وأذية الناس شر بحد ذاته، لكن الهدف النهائي منها هو خير للمؤمنين. فتأمل في قوله تعالى من سورة الأنعام الكريمة:

وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شيطين الإنسِ والجن يوحى بعضهم إِلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون {112}

لاحظ قوله تعالى الكريم: ولو شاء ربك ما فعلوه ... نعم، لأنه تعالى شاء رفعة الأنبياء والصالحين على ظهور الأشقياء.


فالكفر بحد ذاته شر، لكن الأنبياء والصالحين والمؤمنين ما كانوا ليصلوا ما وصلوا إليه من مرضاته من دون هذا الشر والصبر على الأذى.


من هذا المنطلق، فالشر جعل لهدف الخير.


وأضرب مثالا قريبا. فمعاناة المحاصرين من أخواننا في غزة أو قتل وتطريد الملايين من أهلنا في فلسطين المباركة شر مبين من الصهاينة.

لكنه في آخر المطاف كله خير لأهل فلسطين. في الحقيقة الناس لا تدرك التكريم العظيم لأهل فلسطين (والمعانين غيرهم) من عنده تعالى. إذ إنه تعالى سخر لأذيتهم شرار خلقه لأنه تعالى سيرفعهم في الآخرة على صبرهم وكفاحهم مقدار ما عانوا من شرار الخلق.

ولهذا السبب تحديدا، نجد أن الأنبياء هم أكثر الناس ابتلاءً، كما إنه تعالى يسخر أشر الناس لأذيتهم، وما هذا إلا خير منه تعالى لهم، في المنظور البعيد.


ملاحظة:
نجد أحيانا في الكتب أو في اللوحات الفنية التي تعرض أسمائه تعالى الحسنى اسما غريبا له تعالى وهو : الضّار. فمن منا يسعد أو يتشرف بهذا الاسم لنفسه؟

ثم هل تتحمل معاني كلمة "حسنى" لغويا اسما كالضّار ؟

نستغفر الله تعالى من هكذا أفعال. فالله تعالى لا يضر شيئا أبدا. هو سبحانه يعيد الشر لأصحابه بالضرر.

وكذلك صفة المكر. فهو تعالى يعيد المكر لأهله، ولا يبدأه ... سبحانه وتعالى ...


تبقى نقطة أخيرة هنا. لماذا شاء الله تعالى رفعة المؤمنين بشقاء الكافرين.

يعني: لو أراد تعالى نعيم المؤمنين واكرامهم لدرجة أنه خلق العالمين لهم، فلم لا يفعل ذلك سبحانه بأخذهم لجنة الخلد من دون خلق الكافرين ثم عذابهم؟ كيف نفهم أن يعذب أهل النار خالدين فيها من أجل عدائهم للمؤمنين؟


للجواب على هذا السؤال الأزلي الكوني نفسر قوله تعالى من سورة المؤمنون:


ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض، سبحان الله عما يصفون {91}

ما معنى الآية؟

كل ما يعرفه الإنسان من قوانين ونواميس إنما تخص الأكوان المخلوقة، لكن نجد في الآية أعلاه شيئا فوق كل ما نعرفه نحن الخلق ... طبعاً لا توجد آلهة أخرى غيره سبحانه ... فلو وجدت، فإنهم سيتنافسون: فالأنداد يتنافسون إلى الأعلى وإن كانوا آلهة ... الآية الكريمة تقول هذا ...

فمن باب أولى أن يطبق هذا التنافس على الخلق ... ونجده واضحاً جليا فينا ... فالإنسان يجتهد ويعمل من أجل تأمين احتياجاته الأساسية من لقمة عيش وسكن وما شابه ... لكن هذا ليس كل ما في الأمر، فهذه الاحتياجات الأساسية يتشارك فيها الإنسان مع غيره من الكائنات الحية الأدنى منه.


أما الإنسان فيختلف عن غيره بتنافسه إلى الأعلى ولديه رغبة بأن يكون الأفضل بين أقرانه ... دائماً ...

لهذا السبب تجد من الناس من يملك من المال والسلطانِ ما يكفي لعشرة أجيال من أحفاده، وبالرغم من هذا تراه يسعى – وهو في أرذل العمر – لنيل المزيد والمزيد من المال والسلطان ... وهذا لأنه يريد أن يكون الأفضل بين أقرانه وإن كان على فراش الموت ... فلقمة العيشِ وحدها هي قضية الحيوان، لا الإنسان ...

فالله عز وجل خلق الناس كلهم ليجعل "المؤمنين" أعلاهم بالإيمان والسكينة في الأرض، ويوم الحشر بتوزيعهم للشفاعة على من هم أدنى منهم، وفي جنات عدن التي هي درجات أعلى وأعظم فرقة وشأنا مما نعلمه في هذه الدنيا ... وبهذا تكتمل نعمته تعالى على أصفيائه ...


انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا (الإسراء:21)



فيما يلي أضرب مثالا يظهر ما قلته للتو بالتفصيل ...

لنفترض أن ملكاً له سلطان وقدرة عظيمة أحبَ إنساناً، فكيف يظهر له الحب والود؟ قد يقال بإكرامه وأخذه مثلاً إلى جزيرة أحلام فيها كل ما تشتهيه النفس، وتسخير ما فيها من ملذات لخدمته وإسعاده. ولكن هل هذا كل ما يريده المحبوب؟ هل يتم إرضاءه وتكريمه بهذا العطاء؟ في الحقيقة لا، فلو أراد الملك التكريم الكامل لحبيبه فعليه بالإضافة إلى الجزيرة أن يفضله على أقرانه، فالإنسان بفطرته يسعى للتميزِ عن أقرانه ابتداءً من تنافسه مع مئات الملايين من أقرانه في رحم أمه لتلقيح بويضة وحيدة.


نقطة أخرى: لو علمنا أن الإنسان يعيش في الأرض مدة قصيرة جدا لا تتجاوز المائة سنة بالنسبة للخلود الأبدي في الجنة أو النار، كيف نفهم أن يخلد الكافرون في النار؟

الجواب:

لو أملك بقالة صغيرة عليها بائع. عندما أحاسب البائع آخر الشهر فإني أحاسبه على مقدار مسؤليته المحدودة جدا.

الآن، لو أردت محاسبة رئيس شركة كبيرة بها عشرات الآلاف من الموظفين، فهل أحاسبه كما أحاسب عامل البقالة، أم أحاسبه على كل ما تحته؟


فلو عرفنا أننا مسئولين عن خلق السموات والأرض وأننا على رأس هذا الخلق، فكيف يكون حسابنا؟


إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (الأحزاب:73)



وأخيرا في شأن الحروب بين الناس والأمم فلنا ما يلي :


هناك قوانين ونواميس دقيقة غير مرئية ولا مدركة تمضي على الأفراد والمجتمعات كما أن هناك قوانين طبيعية فيزيائية تمضي على كل الخلائق. وهذه القوانين هي نفسها ذاتها هنا وهناك، إلا أن لها صيغا ومعادلات حسابية رياضية مختلفة حسب الحالة.

فتأمل قوله تعالى من سورة الحج الكريمة :

الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)

الآية الكريمة تشير إلى قانون التدافع بين الناس. فلولا أن الناس تدفع وتقاتل بعضها بعضا (وهو شر كما نراه) لركنت الأمم إلى الدنيا وفسدت ثم خسرت.


نجد تطبيقا مباشرا لآية الحج الكريمة في أحداث 25 يناير في مصر!

فنلاحظ أنه في آخر يوم من السنة 2010 وقعت تفجيرات طائفية في كنيسة الإسكندرية.

والآية الكريمة تقول بصراحة مبينة أنه بمجرد أن يصل فسق الإنسان الحد الذي يستبيح أماكن العبادة – مهما كانت – فإن الله تعالى سيدفع بعضهم ببعض لوقف هذا الإفساد العظيم.

وهذا ما حصل بالضبط. إذ لم يمض شهر واحد على تفجير الكنيسة، إلا ووقعت الثورة المصرية المباركة. إذ إن تفجير أماكن العبادة خط أحمر منه تعالى للإنسان، ما إن يجتازه إلا وأصابه أمر منه تعالى يعيد الأمور إلى نصابها من جديد.



موضوع القدر يقود الإنسان لسؤال كبير وهو لماذا خلقنا الله تعالى؟

من الملفت أن الإنسان لا يفكر بهذا السؤال لو كان سعيدا. يفكر به فقط عندما يتألم ويشقى.

طبعا الجواب عند الكثير من الناس يكمن في الآية الكريمة من سورة الذاريات:

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)


فيقال إننا خلقنا لنعبد.


هذا جواب صحيح. لكن فهمنا له غير كامل. فالله تبارك وتعالى أعظم من أن يحتاج لعبادة خلق من طين أو غيره.

فلو قال مدرس لطلبته: أدرسكم لتتعلموا. فكل طالب يفهم الكلام بطريقته. منهم الذي لا يريد أن يتعلم أصلا، ومنهم الذي يتعلم ليفهم، أو ليصبح مهندسا بارعا، أو ليجمع مالا، أو يتعلم لأن أقرانه يتعلمون، أو لأن والده أجبره على ذلك.

فالتعليم وسيلة وليس غاية.

كذلك العبادة. فهي وسيلة وليست غاية.

ونجد هذا المفهوم في الآيات التالية مباشرة من الذاريات الكريمة:

مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)

فهو تعالى في غنى عن عبادة الخلق له سبحانه.


قد يقال إن الله تعالى خلق كل هذا ليرينا عظمته وإبداعه. والرد على هذا أيضا نفسه: فما حاجة الخالق ليظهر عظمته لمخلوق طيني هو سبحانه خلقه؟



الله تبارك وتعالى واحد، فلا بد من أن يكون الهدف من وجودنا كذلك واحد، فكل شيء في الخلق دوما يشير إلى واحد.

إن الخلق بسمواته وأراضيه وكائناته الحية والميتة، والمجتمعات الإنسانية المتعاقبة، بما في ذلك الأديان السماوية تشير إلى هدف الخلق هذا.

وهو هدف كبير عظيم كما هو خلق السموات والأرض، فلابد إذن من أن يكون الوصول لفهم هذا الهدف كبيرا عظيما.

للوصول لهذا الهدف الكبير وهو غاية الخلق، لابد من أن يكون الطريق طويلا ... بطول خلق السموات والأرض وبطول وجسامة تاريخ المجتمعات الإنسانية.


فلا نعجب إذن من أن الجواب لهذا السؤال لا يزال محيرا بعد طول زمان.


سبحانه وتعالى

تثنت الصدور خشوعا من جلاله والرقاب

واقشعرت الأبدان لجلاله وإكرامه وإحسانه وآياته العجاب

تلألأت أنواره
ضجت وتفجرت وشعشعت وتغنت وازدانت بالحياة والحسن والجمال والبهاء مخلوقاته



والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد المصطفى الأمين
وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين


Red-rose
صديق المنتدى
صديق المنتدى
مشاركات: 58329
اشترك في: الأحد سبتمبر 28, 2008 1:33

رد: القدر: خيره ... وما نحسبه شرا ؟ ولم الشقاء ولم العذاب؟

مشاركة بواسطة Red-rose » الخميس مارس 15, 2012 3:06

الحمد لله

شكراً لك .. موضوع أكثر من رائع
جزاك الله كل خير

أضف رد جديد

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 19 زائراً