تجميد النبوءات وتقديس الأمم لأسلافها

تفسير وأحكام وقصص من القرآن الكريم

المشرف: manoosh

أضف رد جديد
د نبيل أكبر
عضو نشيط
عضو نشيط
مشاركات: 54
اشترك في: الجمعة أكتوبر 07, 2011 4:06

تجميد النبوءات وتقديس الأمم لأسلافها

مشاركة بواسطة د نبيل أكبر » الأحد إبريل 08, 2012 4:15


بسم الله الرحمن الرحيم






كثيراً ما يخبر الأنبياء أقوامهم بالأمور المستقبلية الغيبية، وتقديم هذه الأخبار الغيبية من أهم أعمال الأنبياء. بل إن كلمة "نبي" نفسها مشتقة من "الإنباء" ... فالرجل ينبئ فهو نبئ ... إلا إن الإشكال يحصل عندما يقوم الناس في الأجيال المتعاقبة بتفسير هذه النبوءات المستقبلية الغيبية. فهل تؤخذ عبارات ومفردات النبوءات حرفياً أو على سبيل الاستعارة والمجاز؟



وسنتطرق فيما يلي إلى هذا الموضوع الحساس والمهم جداً، ونبين وجهة نظرنا فيه إذ يمكن للأمم أن تُسيء فهم هذه النبوءات فتضل ضلالاً بعيداً، كما يحصل دوماً ...



استخدام الأنبياء للرموز المبطنة فيما يتعلق بالنبوءات المستقبلية ضروري وحتمي، وخصوصاً في الإسلام كونه لجميع الناس والأزمنة. إذ كيف يخاطب الإسلام عدة أقوام في عدة أزمنة ويكون مناسباً لهم كلهم في الوقت الذي يخاطبهم بلغة واحدة ولسان ثابت جامد؟ فهل على نبي يخبر قومه عن قصة مستقبلية أن يشرح أساليب الحياة المستقبلية؟ فيذكر شكل الأسلحة والمواصلات والاتصالات والنظريات العلمية المختلفةَ؟ فعلى الناس فعل ذلك، وعليه هو دور التبليغ وتبيان المقاصد.



وليس أدل على أن منهج التفسير الصحيح للنبوءات المستقبلية يجب ألا يكون بحملها على ظاهر ألفاظها هو الرؤيا الصادقة. فالرؤيا الصادقة من الله تعالى للعبد وهي جزء من النبوة كما تواتر في الأحاديث النبوية الشريفة، وتحتوي على رموز واستعارات مجازية عادة ما يعجز الناس عن كشف أسرارها وفك رموزها فيلجئون مسرعين إلى من يُعبّرها لهم.


فإن كانت الرموز والاستعارات تستخدم لجزء الرؤيا من النبوءة فَوجب أن تكون النبوءة الكاملة ذاتها إذن رموزاً واستعارات مجازية ذات دلالات محددة لا يمكن فَهمها وتحققها على ظاهرِ ألفاظها حرفياً ...



فلو علمت إن يد الإنسان – وهي جزء من الجسد - تتكون من لحم ودم، أفلا تعلم أن باقي الجسد يتكون أيضاً من لحم ودم؟ وكذلك لو علمت إن الرؤيا – وهي جزء من النبوة – تتكون من رموز وإشارات، أفلا تعلم أن باقي النبوة تتكون من رموز وإشارات أيضاً؟



فالقرآن الكريم والسنة والنبوءات المستقبلية للأنبياء تأتي بالظاهر الصريح للثوابت، وبالباطن المرموز للمتغيرات. فتبقى الرموز مبطنة إلى حين وقتها فتظهر على حقيقتها وتبان ... وهذا عين من أعين الإعجاز واللطف في الإخبار. فتأمل:




وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليُبَين لهم ...{ إبراهيم: 4}



فمن معاني اللسان لغة التخاطب بين الناس وبذا قد يشمل جميع وسائل التفاهم والاتصال التي تعتمد بدورها على أحوالهِم الاجتماعية والعلمية وما إلى ذلك من متغيرات ومتطورات.




الناس يستعملون دوماً الاستعارة في حياتهم اليومية، ويفسرون الكثير من عبارات الكتب السماوية على سبيل الاستعارة أيضاً. وبالرغم من أنّ علم الاستعارة والمجاز من الأسس في جميع اللغات، نجد في الكثير من الحالات أن الناس يفسرون العبارات المجازية في النبوءات المستقبلية لأنبيائهم حرفياً وعلى ظاهر ألفاظها!



فلو قلنا: متنا ضحكاً ... فهل نقصد أننا متنا فعلا ؟
ولو قلنا: نزلت درجات الثانوية العامة. فهل نقصد أنها نزلت من السماء؟
ولو قلنا: نزلنا في الفندق، فهل نقصد أننا نزلنا من السماء إلى الفندق!؟


وعندما نشير إلى المصحف الكريم ونقول: هذا الكتاب أنزل من عند الله تبارك وتعالى من السماء، فهل نقصد أن هذا الورق المطبوع أنزل بطريقة ما إلى الأرض من السماء؟ طبعاً لا، ولكننا نعني أن معانيه وأوامره ونواهيه نزلت من عند الله تعالى ...




فلماذا حين نسمع نبوءة بِنزول عيسى من السماء نجزم بأنه سينزل بجسده؟ لم لا نفهم أن معنى من معاني النزول والأوامر الإلهية بخصوصِ عيسى هو الذي سينزل من السماء كأمر إلهي ويتحقق؟



فلم نستعمل هذه الاستعارات دوماً في حياتنا اليومية وإذا جاءت في نبوءة دينية نفسرها حرفياً؟ قد يقال أن كلام الأنبياء يجب تفسيره حرفياً لا غير، لأنهم أنبياء! فأقول فإن كنا نفهم الكثير من كلام الله تعالى نفسه سبحانه على سبيل الاستعارة، فلم لا نفهم كلام الأنبياء على سبيل الاستعارة أيضاً؟



فعندما يقول الله تعالى: خلق الإنسان من عجل (الأنبياء:37)، فهل نفهم أن مادة اسمها "عجل" خلقنا منها؟ أو نفهم أن الإنسان عجول بفطرته؟



وعندما يقول رسولنا الكريم: سبعة يظلهم الله تعالى بظله يوم لا ظل إلا ظله، فهل نعتقد من الحديث أنه تبارك وتعالى مادي وله ظل من نور يسقط عليه، سبحانه وتعالى! فالمقصود هو سبعة يحفظهم ويظللهم برحمته وكرمه وفضله وإحسانه وستره ...



وعندما يصف رسولنا الكريم المسيح الدجال بأنه أعور، فلم يعتقد معظم الناس بأنه رجل أعور بالمعنى الحرفي؟ ولماذا لا يفهمون أنه ضال بحيث أنه يرى الحق من منظور واحد أعوج فقط؟ ألم يشبه القرآن الكريم الضالين بالعمى مرات ومرات؟ ألا نجد مثلاً:



وما أنت بهدى العمى عن ضللتهم {النمل: 81}



ومثلا:


أفأنت تسمع الصّم أو تهدى العمى ومن كان فى ضلل مبينٍ {الزخرف: 40}




فمن المعلوم إن اللفظ يستخدم على الحقيقة كأن تقول: جاء الرجل، ويستخدم على المجاز كأن تقول: جاء الحق. ولمعرفة الفرق بين الحالتين يتعين الرجوع إلى العقل، والعقل فقط، إذ لا شيء من الممنوعات أو المستحيلات عند وصف الأشياء بالمجاز.





فلو سمع طفل جملة "جاء الحق"، فقد يصعب الفهم عنده، إذ قد يتصور "الحق" جسداً مادياً يمشي على أرجل، إلى أن يطور مداركه ويدرك حينها المعنى المقصود لأنه ليس للحق أرجل يمشي عليها. وعندما يسمع الطفل الأساطير فإنه يكون صوراً مجسمة عنها ويحسبها واقعية إلى أن يتطور الفكر عنده فيدرك الفرق بين الأساطير والواقع.



فالمعيار لمعرفة الواقع من المجاز في الأخبار هو "إمكانية حدوثها على الواقع". فكلما زاد العلم والعقل والإدراك والخبرة زادت معها القدرة على التميز بين "إمكانية الحدوث على الواقع" وبين "المجاز التصوري".



والأخبار والأمثلة المجازيةَ ليست بسيطةً دائماً، بل قد تكون قصصاً كاملة لا يظهر فيها استخدام المجاز بوضوح. فعلى المستمعِ إذن النظر والتفكر والبحث عن " إمكانية حدوثها على الواقع".



أما من جهة القائل، فعليه أن يستخدم العبارات بما يتوافق مع عقل وعلم المتلقي. فمن العيب مثلاً أن نضرب مثال الثعلب والدجاجة أو الغول لإنسان عاقل، ومن إضاعة الوقت أن نبين عظمة الكونِ بمثل التفاعلات الذرية للأمي. فعلى ضارب المثل مراعاة حالة المتلقي الذهنيةِ، ودرجة علمه ونضوجه وإدراكه.



فإن كان ضارب المثل هو اللطيف الخبير فهو يخبِر بطريقةٍ خفية غير مباشرة، وبأمثلة تستدعي التفكر والتأمل والعلم والإدراك. فإخباره لنا تعالى يكون بخفية ولطف وقد يستغرق الدهور من تفكر الأمم وتطورها وتعلمها في جميع مجالات الحياة كي تدرك بعضا من هذه الأخبار ...



فمن غير المعقول ألا يدرك الإنسان أن ما كان يسمعه في طفولته من أمه عن كلام الثعلب للدجاجة هو من قبيل المجاز والاستعارة، ومن غير المعقول ألا تدرك الأمم أن ما كانت تسمعه في تاريخها البعيد من الأنبياء عن صفات المسيح الدجال مثلاً وأدواته وأسلحته هو من قبيل المجاز والاستعارة!



إن الآثار السلبيةَ للتفسير الحرفي للنبوءات المستقبلية للأنبياء تطول جميع الناس وتجعلهم في حيرة وتناقض.


فمن الذي يبحث في علوم الجينات هذه الأيام ثم يعتقد بوجود حمار من لحم ودم وهو ناطق ويستطيع الطيران ويأكل النار والحجارة (حمار الدجال) وما بين أذنيه أربعين ذراعاً؟ ثم لا يجول بباله أن هذا ما هو إلا وسائل المواصلات هذه الأيام؟



ومن الذي يبحث في علوم الطب هذه الأيام ثم يعتقد بوجود المسيح الدجال كرجل واحد كافر يدعو رجلا ممتلئاً شباباً، فيضربه بالسيف، فيقطعه جزلتين، ثم يدعوه، فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك؟ ثم لا يجول بباله أن هذا ما هو إلا ما يقوم به أطباء الجراحة هذه الأيام، وأن هذا الذي يضحك بعد تقطيعه ما هو إلا المريض الذي أجريت عليه العملية بنجاح؟



إن الكثير من الغربيين يؤمنون بنزول عيسى ويعتقدون أن ذلك لن يحدث إلا على أقوام بدائيين، ظروفهم وأوقاتهم هي كما نتخيله من حال العصور الحجرية من حيثية وسائل الحياة المتخلفة من مواصلات واتصالات ومأكل ومسكن (سيف، درع، سوط، خيل، نار، دخان، خيمة ...).



وهذا لأنهم فهِموا عبارات النبوءات حرفياً ولم يدركوا مدلولاتها ومعانيها. ولهذا السبب تحديدا يظنون أن نزول عيسى إنما يكون بعد فناء الحضارات الحالية عن بكرة أبيها إما بحروب عالمية أو بكوارث على مستوى الأرض بأكملها!



ولقد تواترت الأنباء عن أن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن ووالده ومن قبله ريغان كانوا يخططون على دمار شامل كي تتحقق النبوءة في تصوراتهم.




بعبارة أخرى، فهم مستعدون لتصديقِ أن جميع ما نرى هذه الأيام من مدنية ومنشئات حديديةٍ مسلحة سوف يفنى عن بكرة أبيه، لتبقى بعض الناس والخيول والسيوف لتتحقق النبوءات حرفياً، وليست مستعدة لتصديقِ أن المقصود بالسيف في النبوءة هو ببساطة وسيلة القتال، وأن المقصود بحمار الدجال مثلا هو وسيلة المواصلات.



فما السبب يا ترى لهذه الإشكالية الأزلية الكبرى؟ وبالمناسبة، فهذا التناقض تجده في جميع الديانات والمعتقدات قاطبة وبغضِ النظر عن درجة التقدم المادي للمجتمع والأفراد! فالاعتقاد مثلا بأن عيسى عليه السلام سينزل من السماء إلى الأرض على أجنحة الملائكة لا يعتقد به العامل البسيط الذي يجمع ورق الشاي في حقول سيلان فقط، بل يعتقد به الذين يمضون معظم وقتهم في المعامل الحديثة يبحثون في مجالات الأحياء الدقيقة وما دونها ويرسلون الصواريخ والأقمار الصناعية إلى الفضاء الخارجي!



السبب ببساطة تقديس السلف وعبادته. فالناس - كل الناس مجتمعات وأفراداً - يقدسون سلفهم ويفخرون به، أياً كان هذا السلف، ولقد تكلم القرآن كثيرا، وتكلمنا كثيرا عن هذه القضية.



فالناس كما هو معلوم يقتلون أنبيائهم ويستخفون بهم وبمعتقداتهم ويرمونهم بالكفر والجنون.


كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون (52) أتواصوا به بل هم قوم طاغون {الذريت:53}



ثم ما أن يمضي الأنبياء إلى ربهم مكسوري الخاطر مكذبين مطرودين، وبعد أن يدخلوا في عداد "السلف" تجدهم - وللمفارقة - لا يصبحون أنبياء وحسب، بل يصبحون آلهة تعبد وهم تحت القبور! وعيسى ابن مريم خير مثل على ما ندعي!


ولقد كان بعض التابعين يمشي في مدينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم حافياً كيلا يدوس بحذائه موطأً كان الرسول قد وطأه من قبل. ومنهم الذي يحثوا تراب مدينة رسول الله وأحجارها على رأسه باكياً حسرة على مفارقة الرسول وحبا في التراب الذي كان يدوسه! لكن أليس هذا التراب هو نفسه الذي سحل عليه أوائل المسلمين؟ فانظر كيف تغير الحال في بضعة عقود.



فمحاربة الأنبياء والمجددين أمر طبيعي، بل قلما ورد ذكر نبي في القرآن إلا وذكر في سياقه ما يعانيه من التكذيب والطرد والقتل.


وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شيطين الإنسِ والجن يوحى بعضهم إِلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون {الأنعام:112}




فلماذا يحارب الأقوام أنبيائهم وصالحيهم أحياءً ويقدسونهم ويعبدونهم أمواتاً ؟؟؟



السبب ببساطة "الغيرة" من الأنبياء. وهذه الغيرة ليست معصية بسيطة، بل هي المعصية الأولى في الخلق.



وإِذ قلنا للملئكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إِبليس قال ءأسجد لمن خلقت طينا {الإسراء:61}



قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (12) قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبّر فيها فاخرج إنّك من الصّاغرين (الأعراف:13)




ونجد شاهدا على قولنا من سورة غافر:



ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينت فما زلتم فى شكّ مما جاءكم به حتى إِذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً كذلك يضلّ الله من هو مسرف مرتاب {غافر:34}



فهذا الرجل الذي كتم إيمانه يفضح اليهود ويقول لهم: لما جاء نبي الله تعالى يوسف شككتم في أمره، فلما مات أوجدتم من عند أنفسكم مقولة " أن لن يبعث الله تعالى من بعده رسولا" ...



بالمعنى البسيط: قبلنا نحن الناس على مضض وكره النبي السابق، لكن هذه آخر مرة، إذ لن نقبل بعده رسولا ...




فالغيرة معصية، وتكون هذه المعصية "كبرى" عندما يغار الناس من اصطفائه تعالى للرسل. لذا فقد تواتر في المصحف الشريف وصف الكفار لأنبيائهم بأنهم ما هم إلا بشر مثلهم:



وما منع الناس أن يؤمنوا إِذ جاءهم الهدى إِلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا {94} قل لو كان فى الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا {الإسراء:95}




فالله تعالى يوضح الحكمة من كون الرسل من جنس المرسل إليهم. ( إنها الغيرة ) . فالإنسان لا يغار من ملائكة، لأنهم ببساطة خلق مغاير كليا عنهم وبالتالي لن يقارن الإنسان نفسه بالملائكة وبالتالي لن يغار منهم.



وكذلك فالإنسان لا يغار من إنسان بعيد عنه مكانا أو زمانا أو سناً، لأنه لا يقارن به.



وكما إن الإنسان لا يغار من الملائكة، فإنه لا يغار من الأموات، مهما بلغ هؤلاء الأموات من الخير والغنى والمجد في حياتهم.
إذ عند موت إنسان، يدخل في عداد حبات التراب فلا يشعر بالغيرة منه أحد من الأحياء الذين يدوسون هذا التراب.



وهذا هو بيت القصيد. فالناس تحارب وتبغض أنبيائها ومصلحيها في حياتهم، وما أن يمضي هؤلاء ويدخلوا في عداد الأموات حتى تتلاشى الغيرة وتظهر الحقيقة، فينقلب الناس رأسا على عقب ويقدسوا أنبيائهم وصالحيهم.



وهذا الكلام لا ينطبق على الأنبياء وحسب، بل ينطبق على معظم المجددين والمصلحين، وجميع المشاهير في مجالات الأدب، والفن والرياضة والعلوم.


كما نشير إلى أن السبب الرئيس في تقديس الناس لأسلافها هو تقديسهم لأنفسهم، إذ نحن من السلف، فلو قدسنا ومجدنا أسلافنا فنحن بطريق غير مباشر نمجد ونقدس أنفسنا ...



إن الكثير من الأمم تدافع عن أسلافها بحسن نية ظنا أن الدفاع عن السلف والذود عنه وعن مكتسباته إنما هو دفاع وذود وجهاد في سبيل الله تعالى، وهذا الفكر أحد أخطر مداخل الشيطان، إذ يأخذ الناس لعبادة الناس من باب عبادة الله جل جلاله، فيلتبس الأمر عليهم.




فدين الله تبارك وتعالى لا يخطئ، ولكن الناس على مر العصور تخطئ. ودين الله تبارك وتعالى لا ينسى، ولكن الناس تنسى، ودين الله تبارك وتعالى لا يتغير ولكن الناس تتغير، ودين الله تبارك وتعالى لا يكذب ولا ينافق ولا يرائي، ولكن الناس تكذب وتنافق وترائي.



ومن المعروف لغة أن غير العاقل يُتحدث عنه بالإفراد والتأنيث، لكننا نجد أن القرآن الكريم يتحدث عن الأصنام بالجمع والتذكير بالرغم من أن الأصنام والأوثان من غير العاقل، فمثلا:


أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (الأعراف:192)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (البقرة:165)

أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (الأنبياء:43)


فلماذا يعامل القرآن الكريم الأصنام معاملة العقلاء باستعمال ضمير الجمع المذكر؟


من منظوري إن هذه الأصنام، كما جاء في التفاسير والأحاديث النبوية الشريفة، ما هي في الأصل (في معظم الحالات) إلا أسماء رجال قدسهم الناس قديما ثم مع الزمن عبدت تماثيلهم.

فالخطاب عن الأصنام إنما هو لأصلها من الناس، وكذلك العقاب يقع على المشركين بهذه الأصنام وعلى الرجال أصحاب هذه الأسماء (لو كانوا من غير المؤمنين)، ولذا فقد ورد ذكر عقاب "هذه الأصنام" بالرغم من كونها لا تعقل ولا تحاسب. فالعقاب ليس على الأصنام بحد ذاتها، بل لما تمثله من رجال عاديين من السلف حسبهم أقوامهم من الصالحين:


إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (الأنبياء:99)



ولكن ما علاقة تقديسِ السلف بالتأويل الحرفي للنبوءات؟


الجواب أنه عندما يخبر نبي بنبوءة بِلغة الاستعارة، يقوم أصحابه من حوله بتأويلها حسب ما يدركون وحسب ما تعنيه لهم "مسميات ورموز" النبوءة في وقتهم. ولغرابة النبوءات وصعوبة تصديقها من الناس في ذلك الحين، تنتشر هذه الأخبار بسرعة كالنار في الهشيم.



ولأن أصحاب الأنبياء سيكونون سلفاً مقدساً عما قريب كما بينا أسبابه، فسرعان ما تقدس أقوالهم وتأويلاتهم وإضافاتهم فتجمد ولا تناقش ولا تراجع من الناس فتثبت في عقول الأجيال تلو الأجيال وتصبح من العقائد الثابتة مهما بلغ الناس من التقدم والرّقي في المجالات الأخرى.



فتجميد صحابة الأنبياء لـ "مسميات ورموز" النبوءة حسب ما يدركون وحسب ما تعنيه لهم في زمنهم متوقع جداً. فدلالات ومعاني الرموز والاستعارات كانت ثابتة لفترات طويلة من الزمن ولم يكن أحد من الناس ليتوقع إمكانية تغيرها أبداً، لذا فقد تم حصرها وتجميدها على مدلولاتها في ذلك العصر.




فمثلا لو سألت أحداً من القرون الأولى عن تصوره لوسائل التنقل بعد ألف سنة فلن يتخيل الاستغناء عن الدواب في التنقل في يوم من الأيام! وهم في هذا الجمود محقون فوسائل التنقل لم تتغير منذ آلاف السنين إلا من عهد قريب.



أما لو سألت أي إنسان اليوم نفس السؤال فعلى الأرجح أنه سيقول أنه لا يعلم لأن وسائل التنقل تتغير وتتطور سريعاً! لهذا فإذا جاء ذكر دابة في أحد النبوءات النبوية فلن يفهمها القدماء كوسيلة مواصلات قد تتغير يوماً، بل سيحصر فهمها على الدابة فقط، وإن كانت النبوءة بأن هذه الدابة تستطيع الطيران مثلا أو الكلام من تلقاء نفسها!




بل هذا تماماً ما يريد الناس. فالناس لا تريد التغيير وإن كان التغيير في صالحهم! والحكام والسياسيون لا يريدون التفريط في سلطتهم، والأغنياء لا يريدون نظاماً جديداً قد يفقدهم مكاسبهم. والمفكرون والعلماء لا يتقبلون فكراً جديداً يدحض أقوالهم ومبادئهم.




إن الملائكة لم تحمل الأنبياء من السماء إلى الأرض يوماً لتحمل عيسى ابن مريم، والملائكة لم تظهر مع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أمام الناس بشكلها الملائكي لتظهر مع عيسى ابن مريم.



لكن حتى إن جاءهم ما في تصوراتهم حقاً، فلن يعدموا حينها أدلة تؤكد وجود السحر ووجود الكثير من الناس بقوىً خارقة للطبيعة ...





تخيل فقط أن النصارى يعتقدون أنهم ضعفاء طاهرين معذبين بأوساخ أهل الأرضِ وأوباشها وأنهم سيشاهدون أخيراً المسيح ابن مريم نازلاً من السماء على أجنحة الملائكة يضع تاجاً على رأسه ويجلس على عرش الملك لينقذهم من أهل الأرض. وطبعاً سيقومون بتصوير منظر النزول المهيب بالكاميرات وسيبثونها كخبر عاجل بآلاف القنوات الفضائية لجميع سكان الأرض الذين سيتسمرون أمام شاشات التلفزة كأنهم يشاهدون افتتاح دورة الألعاب الأولمبية.



ثم بعد أن يخبروا المسيح ابن مريم في واشنطن أو لندن أو باريس بمعاناتهم وضعفهم وانتظارهم الطويل، وأنهم لا يملكون من الأسلحة النووية والجرثومية والصواريخ العابرة للقارات ما يكفي للقضاء على الأوباش في إفريقيا وآسيا، سيساعدهم عيسى في المهمة الصعبة التي تحتاج الكثير من الرحمة والحب فيقتل جميع أهل الأرض من غير دينهم ثم يحملهم إلى السماء على ظهر غمامة بيضاء تحفها الملائكة حيث يعيشوا هناك تحت ظل الربِّ ... هل لكم أن تتخيلوا هذه التناقضات؟ هذا هو ما يحصل الآن! هذا ما يعتقدون!




والصهاينة الذين يحسبون أنفسهم المستضعفون في الأرض سيقولون للمسيح عيسى أنهم لا زالوا منتظرين له باكين عند حائط المبكَى منذ أكثر من ألفي سنة ليقودهم للخلاص من الحكم الروماني الظالم ... وأن أهل الأرضِ لم يعترفوا باليهود أسياداً، بل إنهم لم يعطوهم قطعة أرض صغيرة ليعيشوا فيها بسلام ... وقد نسوا أو تناسوا أن أجدادهم هم من اضطهد وكذب المسيح ... وأنهم من أرجس أهل الأرض على مدار التاريخ ...




ولهذا فقد حذرنا القرآن الكريم ورسولنا صلى الله تعالى عليه وسلم من الوقوع في هذا الشرك.



قد كانت ءايتى تتلى عليكم فكنتم على أعقبكم تنكصون {66} مستكبرين به سمراً تهجرون {67} أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت ءاباءهم الأوَّلين {المؤمنون: 68} ...




أوليس معنى {على أعقبكم تنكصون} هو العودة للسلف والنظر إلى الوراء؟



أم إن آيات التوبيخ والتحذير هذه نزلت في مشركي مكة وهم قد ماتوا وشبعوا موتاً وكأن القرآن كتاب للأموات وحسب؟ أوليس القرآن الكريم حيٌ كما هو منزله الكريم سبحانه يصلح لجميع الأزمنة والأوطان إلى يوم الدين؟



فالقرآن الكريم يخاطب الناس جميعا بجميع مللهم وأزمانهم. فعندما يصف المؤمنين فهو يصفهم في جميع الأزمنة والأماكن. وكذلك فالمقصود بالمكذبين بآيات الله تعالى في القرآن الكريم ليس محصورا على المكذبين بآيات القرآن ذاته ونزوله وحسب في زمن النبوة، بل هم المكذبين بجميع ما في القرآن من معاني وآفاق والمكذبين بآيات الله تعالى الكونية التي لا تختلف في أي أمر عن آيات القرآن الكريم. فكتاب القرآن العظيم وكتاب الخلق المبين من إله واحد سبحانه وتعالى وينبغي أن لا يختلفا في أي شأن صغر أم كبر، وإن كان من تعارض فهو بسبب فهمنا نحن البشر.





بيد أن الناس لا تتقبل مفاهيم جديدة، والسبب الوحيد أن سلفهم لم يقل به:



وإن كانوا ليقولون {167} لو أنّ عندنا ذكراً من الأوَّلين {168} لكنا عباد اللّه المخلصين {169} فكفروا بِهِ فسوف يعلمون {الصفت:170}




إِنهم ألفوا ءاباءهم ضالين {69} فهم على ءاثرهم يهرعون {70} ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين {الصفت:71}




وفي الحديث النبوي الشريف: لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذوة بالقذوة، ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ...



ونعلم يقينا أن ما أهلك الأمم السابقة هو الركون إلى أسلافهم ورهبانهم وأحبارهم ...



ونحن لسنا بمستثنين من هذا الأمر الخطير وعلينا أن لا نركن للسلف كما ركنت الأمم السابقة حتى وصل بهم الحال إلى تقديس وعبادة أسلافهم ... لا يهم القول والكلام هنا، لكن الفعل هو المهم ...


فالفعل أصدق الأقوال




إن المجتمعات الإسلامية متدينة خيرة بفطرتها. ولأنها تعشق هذا الدين الكريم فهي تلتزم به أشد الالتزام. ولأنها تلتزم به تفرقت وتشعبت وتجمدت في دروبه و طرقاته، ذلك أن الناس فرقوه وجمدوه ...



وهذا الإشكال – أي تمجيد الخلق على حساب الخالق سبحانه – نجده ونحياه دوما. فعندما أقول أن رأي زيدٍ خير من رأي عبيد لأن زيداً ذو علم مديد وورع شديد وما إلى ذلك من ألقاب وفضائل، فأنا أمجد زيدا ولا أمجد الله تبارك وتعالى. فالأولى دوما أن لا ننظر إلى القائلين، فهم بشر من طين، بل يجب النظر إلى الأقوال التي تمجد الله تبارك وتعالى وتنزهه وترفع من جلاله وإنعامه وأنواره في أنفسنا ....



تلألأت أنواره سبحانه وتعالى ... وضجت وتفجرت وشعشعت بالحياة والحسن والجمال والكرم مخلوقاته




ونختم بخير القول من آيات القرآن الكريم ...





وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (البقرة:170)



وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (المائدة:104)



قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (الأعراف:71)



قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ {يونس:78}



قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ {هود:62}‏



فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ {هود:109}



مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {يوسف:40}



وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (الأنبياء:54)




وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (لقمان:21)



َكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (الزخرف:25)






والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على خير المرسلين
سيدنا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه
إلى يوم الدين

Red-rose
صديق المنتدى
صديق المنتدى
مشاركات: 58173
اشترك في: الأحد سبتمبر 28, 2008 1:33

رد: تجميد النبوءات وتقديس الأمم لأسلافها

مشاركة بواسطة Red-rose » الأحد إبريل 08, 2012 4:53

صورة


أضف رد جديد

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 5 زوار