قواعد بناء العبقرية والنبوغ في الإنسان

المواضيع التي لا تتبع اي قسم آخر

المشرف: Red-rose

قوانين المنتدى
• يرجى وضع المواضيع التي لا تناسب المنتدى العام في المنتديات الاخرى المناسبه لها
• يمنع وضع اي مواد محمية بحقوق نشر دون موافقه مسبقه من صاحبها
• القوانين العامه
أضف رد جديد
محمد محمد البقاش
عضو جديد
عضو جديد
مشاركات: 7
اشترك في: الاثنين يونيو 12, 2017 2:35

قواعد بناء العبقرية والنبوغ في الإنسان

مشاركة بواسطة محمد محمد البقاش » الأحد نوفمبر 19, 2017 2:26

قواعد بناء العبقرية والنبوغ في الإنسان

ما من أحد منا إلا ويودّ أن يكون عبقريا ونابغة، أن يكون ذا قوة في الخلق والإبداع، أن يكون مجيدا في العلم والمعرفة..
وما من أحد فاته شيء من ذلك إلا ويودّ أن يراه في أحب الناس إليه، ولقد قيل أن ذلك موهبة من الله عزّ وجلّ، ومن وهبه الله ذلك كان محظوظا، ولكي ننتبه إلى خطأ هذه المقولة التي تتهم الله في التسوية بين البشر في العطاء يكفينا أن نعلم يقينا أن الله تعالى قد تفضّل على عباده كلهم وتكرّم بما فيهم أولئك الذين لا يؤمنون به، ولا ينبغي أن يفهم من هذا؛ اُلتناقض بين التسوية والتفاضل، فالتفاضل بين الفعلين والقولين، بين الصفتين والشكلين، بين المتحركين والجمادين، بين الشيئين ما لم يكن من الله تعالى أو من رسوله لا معنى له، فالتفاضل أسّ حركة الحياة به تستمر وبه تظهر العلاقات وبه تُتَبادل المصالح وبه يتم تسخير الإنسان للإنسان، فهذا لا علاقة له بالتسوية ولا يتناقض معها، فكلاهما له دور خاص به، وكلاهما له وظيفة لا بد منها حتى تستقيم الحياة وتستمر، صحيح أن التفاضل يأتي من الإنسان للإنسان وللأشياء، وحين يأتي من الإنسان على شكل أحكام القيمة لا يعتبر عند العقلاء ما لم يكن مبصوما بجواز الخالق جلّ وعلا لأنه يأتي متأثرا بميول الإنسان وأهوائه وطبيعته، بنقصه واحتياجه، بعجزه ومحدوديته، انظر إلى الخير مثلا، فكل شيء يرى الإنسان فيه نفعا يعتبره خيرا، وكل شيء يرى فيه ضررا يعتبره شرا، ولكن الخير والشر لا يعرف حقيقتهما أحد فتكون أحكام الإنسان بالخيرية والشرية عائدة إلى ميوله وطبيعته، فهو من طبيعته ينفر من الظلم ويميل إلى الإنصاف، من طبيعته يميل إلى المحسن وينفر من المسيء، يميل إلى رقيق القلب وينفر من غليظ القلب، ولكي يتأكد من الخير والشر عليه أن يبحث عن أحكام القيمة عند من لا يخطئ وهو الله تعالى، فدفع المؤمن للقتال للجهاد وفيه شر بنظر الإنسان حين يمتدحه الخالق ويدعوا إليه ويحث عليه يكون خيرا وإن جلب معه الشر المتجلي في الأسقام والأعطاب وأذى الأبدان والموت كما نرى وهكذا، فأهم ما يجب التنبه إليه أن التفاضل مرئي للعين المجردة ومسموع للأذن الواعية ولكن حقيقته غيب عن الإنسان، ذلك أن الأفضل ما لم يكن هناك حكم قطعي عن تفاضله وفضله وأفضليته فلا مجال للحكم على الإنسان في تقدير الرحمن مادام غيبا عنا ولا خبر قطعي بشأنه عندنا، فالله عزّ وجلّ له عباد مكرمون وأفاضل فاضل بينهم وهذا شأنه جلّ وعلا لا يُسْأل عنه، لأن السؤال عنه سؤال لا يستجلب معنى، أي جوابا، فإذا كان السؤال لا يستجلب معنى فهو إذن لغو، ولكنهم في عين كثير من الناس دون ذلك وانظروا إن شئتم إلى الأنبياء والرسل مع أقوامهم قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقد كانوا يرونهم دونهم في الجاه والفضل والخير وهم عكس ذلك تماما عند الله تعالى، وانظروا إن شئتم إلى خير البشر والرحمة المهداة سيد ولد آدم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فهو أفضل الخلق عند الله تعالى فهل نطالب بالتسوية بيننا وبينه؟ هل فضل الله بيد غيره حتى يُتَصَرَّف به؟ هل نطلب من الناس أن يحبوا أنفسنا كحبنا نحن لها؟ هل نطلب منهم أن يحبوا أبناءنا كحبنا نحن لهم؟ هل يستقيم مثل هذا الطلب في عقل العاقل؟ كلا، بينما اليهود والنصارى المجوس والبوذيون وكثير من الناس يرونه دون ذلك، فكذلك الشأن عند النظر إلى غيرهم، نتفاضل ونحكم على التفاضل بناء على ميولنا وقيمنا وأفكارنا، فإن كانت وفق ما جاء عن الله في وحيه وُفِّقنا إلى معرفة الأفاضل ممن لنا حكم بشأنهم ولكننا بالنظر إلى بعضنا البعض، بنظرة جاهلنا إلى عالمنا وبخيلنا إلى سخينا ووضيعنا إلى أشرفنا وسقيمنا إلى صحيحنا وفقيرنا إلى غنينا نخطئ الخطأ الكبير والمدمر إذا نحن أصدرنا أحكام القيمة عليهم وعلى أعمالهم في غياب الحكم القطعي بشأنهم وشأن أعمالهم، والعكس عند قلب النظرة صحيح، فلا نحكم على منزلتهم عند الله تعالى لأننا لا نعلمها، ولكننا نحسن الظن بهم ماداموا على الإيمان والإسلام، وبذلك لن يغتر أحد منا مهما بلغ من الرفعة وعلو الشأن وعظيم المنزلة في دنيانا مادام لا يعرف مصيره ومنزلته عند الله تعالى، فلا يغتر أحد ولا ينظر إلى غيره نظرة دونية لأن الكبير عندنا ربما يكون صغيرا عند الله تعالى، والصغير عند الله عزّ وجل ربما يكون كبيرا عندنا لجهلنا بمعرفة الغيب وهكذا.
إن كثيرا من الناس في الحياة دون مستويات كثير من الناس في زينة الحياة الدنيا ولكنهم كبراء وفضلاء عند الرحمن، فلا أحد منا يعرف منزلته عند الله تعالى وهذا الغيب رائع جدا في قطع دابر التكبر والغطرسة في الإنسان.
لقد أعطى الله تعالى الخلائق كلها من عطاء الربوبية الشيء الكثير ولم يزل، لأن يداه مبسوطتان دائما وأبدا ينفق كيف يشاء، ولم يقيد عطاءه بعبادته والإيمان به، أعطى وتفضّل وتكرّم من ذاته دون سؤال أحد، وهذا هو الكريم الحق فما أسعدنا به ربا.
والعبقرية عطاء هي الأخرى ومن ضمن عطاء الربوبية، ولذلك نجد العباقرة والنوابغ من جميع الأجناس البشرية دون تمييز لعرق أو جنس أو دين.. غير أن العبقرية والنبوغ ليسا شبيهين بكثير من أنواع العطاء، فالرزق الذي يقوم به أَوَدُ الإنسان لا يمكن أن يأتي إلا من الماء، والماء عطاء الربوبية، وفي الاستفادة منه يأتي اجتهاد الإنسان حتى يظهر على شكل منافع وخدمات ومصالح في العلاقات العامة والخاصة، لأن اجتهاد الإنسان جهد منه يستغله في استخراج الفائدة منه وهو عطاء الربوبية أيضا يتجلى في استخدامه المُيَسَّر لجوارحه التي هي عطاء الربوبية كذلك.
وأما العطاء الإلهي الآخر فهو عطاء الإلوهية ومنه الإيمان بالله وما أمر بالإيمان به، وهذا العطاء في أصله عطاء الربوبية ذلك أن الإنسان مفطور على الإيمان بالله عزّ وجلّ قد دل على ذلك واقعه وواقع الكون والإنسان والحياة، فالإيمان بالله عطاء ربوبية في أصله قد لطخته أوساخ وغشيته أدران حتى بات مطموسا مُغَيَّباً بفعل فاعل، فما من أحد من الناس إلا وقد أشهده الله على نفسه قبل خلقه، قال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) سورة الأعراف.
ولا يقال أن ذلك متعلق بإيمان المؤمن بالله، ولا علاقة له بغير المؤمن بالله، لا يقال ذلك لأن الإيمان بالله أصل موجود في الإنسان قبل كفره به، فالإيمان بالله سابق على الكفر به، فلكي تكفر بالله وتنكر وجوده وَجَبَ أن يكون المُعْتَقَد بوجوده موجودا قبل إيجادك الكفر به، إذ كيف ترفض وجوده وهو سابق عن إنشائك الكفر به، أي كيف ترفض وجوده بعد العلم بوجوده؟ هذا عمل غير العقلاء، فالإنسان الأول مؤمن بالله عزّ وجلّ، وحين غاب الإيمان به غاب بسبب تغطية الحق من طرف أصحاب المصالح والأنانيين والوصوليين حتى يظلوا على حالهم من السيطرة والاستغلال.. فكان الكفر بالله طارئ ولاحق؛ حتى إن لفظ الكفر يعني التغطية والإخفاء، فكفر لغة بمعنى غطى وستر وأخفى، ومعنى ذلك أن هناك من أعداء البشرية من أخفوا عن الناس الحق رويدا رويدا حتى ستروه إما بحرفهم عن الإيمان به جلّ وعلا، أو بصرفهم عنه إلى الإشراك به وإدخال غيره معه في التقديس والعبادة لتظهر أشكال عديدة من الشرك فتداركهم الله عزّ جلّ من رحمته بالأنبياء والرسل إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يفضي بنا إلى القول أن الإيمان بالله أصل متأصِّل في الإنسان يجده الإنسان في ذاته، يجده في الكون والإنسان والحياة إلا أن يُغَطّى عقله فيصاب بالجحود مع الإحساس الذاتي والعقلي الحتميين بوجود الخالق.
إن الإيمان بالمغيبة ذاته الحاضرة آثاره في خلقه يبدو لكل عين، ويحاجج كل عقل، ألا ترى إلى الأعرابي الذي نظر في الآثار فقال: "البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج أفلا يدلان على اللطيف الخبير"؟
إن الناظر إلى الكون والإنسان والحياة يدرك يقينا استنادهم في وجودهم إلى غيرهم، يدرك يقينا عجزهم ونقصهم واحتياجهم ومحدوديتهم مما يدل قطعا على وجود من أوجدهم، وهذا الذي أوجدهم يستحيل أن يأخذ من شبههم شيئا لأنه بذلك يكون جزءا منهم وهذا عقلا محال، فالخالق الحقيقي عقلا يجب أن لا يشبه شيئا، ولا يشبهه شيء، أي وَجَبَ ألا يكون مثله شيء، ووجب أيضا أن يكون مستغنيا بذاته، والناظر إلى الكون والإنسان والحياة حتى وإن زُعِم أنهم مستغنون باستنادهم إلى بعضهم البعض إلا أن الحقيقة دون مغالطة أن المستغني يجب أن يكون مستغنيا بذاته، انظر إن شئت إلى الكون فهو مجموع أجرام كبرت أو صغرت دقّت أو جلّت، وعند النظر إليه نجده ذلك المجموع من الأجرام، وهذه الأجرام محدودة، ومجموع المحدودات محدود، والمحدود عاجز ناقص محتاج، فالحقيقة أن الاستغناء يجب أن يكون بالذات، فكانت النتيجة أن الكون غير مستغن بذاته والنتيجة أنه مستند في وجوده إلى غيره، وغيره عقلا وجب أن يختلف عنه والأهم أن لا يكون حاملا لصفاته فهو مستغن بذاته، وإذا انتقلنا إلى الطبيعة نجدها مجموع الأشياء والأنظمة، أي هي الكون ونظامه، الطبيعة هي مجموع الأشياء والأنظمة، فالأشياء لكي تنتظم تحتاج إلى نظام، والنظام لكي يُنَظِّم يحتاج إلى أشياء ينظمها حتى يظهر الانتظام، وإذا قيل أن الطبيعة مستغنية بذاتها لأنها محتاجة إلى ذاتها، أي أن النظام محتاج إلى أشياء والأشياء من الطبيعة، والأشياء محتاجة إلى نظام والنظام من الطبيعة، والنتيجة أن الطبيعة محتاجة لنفسها مستغنية بذاتها، هذه النظرة قاصرة عن بلوغ النضج الكافي لإدراك الحقيقة، فالحقيقة أن الحاجة تتنافى مع الاستغناء لأنها تدل على نقص، اُلحقيقة أن الخالق الحقيقي يجب أن يكون مستغنيا بذاته وهذا لن تجده في أي شيء غير الله تعالى، فدل ذلك على أن الجميع مخلوقون له، فالنظام ليس مستغنيا بذاته بل مستغن بالأشياء، والأشياء غير مستغنية بذاتها بل مستغنية بنظامها، ومجرد وجود الحاجة في النظام إلى الشيء، وفي الشيء إلى النظام؛ يدل على نقص وجب تفاديه وعجز وجب تجاوزه ومحدودية وجب إلغاؤها، ودل ذلك أيضا على أن هذه النظرة قد كانت نظرة المستنير من الناس عقليا في القدم منذ آدم إلى أن طرأ عليها شيء من القصر فتكرّم الله عزّ وجلّ وتفضّل ببعث الأنبياء والرسل إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد جاء بكتاب مجيد ليؤكد أن خلاص الإنسان في الكتاب، والكتاب دليل نضج وسبيل نهضة وهو وحي أحكمه بتصورات مستنيرة، وأرشد به إلى وحيه الثاني في سلوك شخص من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، وألحقه بتشريعات ليس غيرها يمكن أن يُوَفَّقَ في معالجتها لشؤون الإنسان الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتعليمية وغيرها لأنها شريعة ممن خلق الإنسان، ومن هنا كانت الشرائع الأخرى والتصورات الأخرى عوائق تحجب عن الناس عطاء الإلوهية الذي كان في أصله عطاء الربوبية فتكرم جلّ وعلا وتفضّل بعطاء الإلوهية ببعثه الأنبياء والرسل آخرهم وخاتمهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم دون أن يلزم أحدا ويحمله على الخضوع له أو القبول بعطائه وهو يحب ذلك، لأن إرادة الإنسان من عطاء الربوبية بها يختار الإنسان ما يريد ويفعل ما يشاء ضمن دائرة ضيقة ــ لو عقلها الإنسان ــ هي مجال إرادته في دائرة الكون أو دائرة القضاء والقدر، وبها أوجب الله المثوبة وأحبها وأوجب العقوبة وكرهها سبحانه وتعالى، وبالنتيجة التي أرادها في عدم إلزام الإنسان بالفعل مادام يختار بإرادته دل فعله جلّ وعلا على عدله، وبرفض الإنسان لتلك العوائق اختار الإنسان الإيمان، وبقبولها مغالطة أو جحودا اختار الإنسان الكفر.
إن العبقرية كما قلنا عطاء الربوبية من حيث التهيئة والقابلية، ولكنها ليست كعطاء الماء، صحيح أنها هي أيضا عطاء مثَلَها مثل الماء لأن الماء سبب فيها وهو عطاء رباني أو رزق إلهي، سبب فيها من حيث وجود الحياة في ذات الإنسان، ومن حيث ضرورة الماء لقيام جسمه وسلامة عقله في الذات البشرية، صحيح أن الماء سبب الحياة في كل ذات حية، سبب الحياة في كل شيء ومنها الإنسان ولكن العبقرية شأن إنساني لا علاقة للحيوان والكائنات الأخرى بها لأن ذاتها قد فطرت على الإدراك الغريزي والتصرف الجيني بينما الإنسان وإن فُطِر على الإدراك الغريزي والتصرف الجيني مثله مثل الحيوان، إلا أن الإدراك العقلي قد تميز به فامتاز عن الخلائق كلها ولا غرابة ففيه نفخة من روح الله عزّ وجلّ، وبما أن الماء سبب قيام ذات كليهما فإن العقل البشري لا يفكر إلا وفق شروط التفكير، والحيوان لا يفكر لفقده تلك الشروط أو بعض منها، وبما أن الماء سبب الحياة في ذاتيهما فإنه أيضا سبب العبقرية في الإنسان غير أنه لا يمكن أن يكون سبب العبقرية في الحيوان ولا أي مخلوق آخر ولا داعي لسوق ترهات من أخبثها فكرة التطور ليس بالمعنى اللغوي، أي انتقال الكائن والشيء من حال إلى حال، أو بتعبير أدق من طور إلى طور كما يحصل للجنين في رحم أمه أو في الأنابيب.. بل بالمعنى الرجعي الدوني الذي يتعمّد تشويه الخلق دون أن يأتي بجنس غير الجنس الذي عمد إلى تشويهه كالاستنساخ مثلا الذي يشبه الإخصاب الصناعي حيث يتم نزع نواة الخلية من ثدي امرأة مثلا ثم زرعها في بويضة بعد إفراغها من نواتها، يحصل ذلك بتسليط مواد كيماوية خاصة، وتيار كهربائي معين بُغْية دمج نواة الخلية مع البويضة.. كل ذلك محاكاة لخلق الله الذي أبى أن يأتي بخلق مستنسخ دوني، أتى بخلق متميز متفرِّد لأنه أحسن الخالقين حتى إنك إن عمدت إلى جميع من زعموا الخلق ستجدهم مقلدون يحاكون مخلوقات خلقها الله تعالى فأين خلق غيره دون محاكاة خلقه وتصويره؟.
انظر إن شئت إلى سبب الحياة في النبات مثلا فستجده الماء، وانظر إلى مصير النبات فستجده إلى اضمحلال شأنه شأن كل الكائنات، غير أن الأشكال التي تشكلت بسبب ذلك الماء قد وقفت عند حد معين على صفة معينة وشكل معين وطعم خاص دون تجاوز الجنس النباتي، فكان الماء فيها قد نشط إلى حد ما رأيناه دون تجاوزه، وإذا نظرنا إلى مصير الإنسان سنجده إلى اضمحلال وزوال أيضا بصرف النظر عن الرؤية العَقَدية فلسنا الآن بصددها، فاضمحلاله وزواله شبيه بجميع الكائنات الحية غير أن الأشكال التي تشكلت بسبب ذلك الماء قد وقفت عند حد معين على صفة معينة وشكل معين وطعم خاص، فكان الماء فيها قد نشط إلى حد ما رأيناه من اختلاف الألوان البشرية وطولها وعرضها وأشكالها دون تجاوز للجنس البشري، ولكن الأمر لم يقتصر عند هذا الحد فقد ظهر النشاط العقلي لدى الإنسان فأوجد العمران (أي المدنية أو الأشكال المادية) والحضارة (أي مجموع المفاهيم عن الحياة) والفكر والثقافة.. والنشاط العقلي هو المظهر للعبقرية، والعبقرية هي النشاط العقلي الحاد، فكان الماء سبب فيها لم يتوقف عند الحد الذي توقف فيه في الكائنات الأخرى فدل ذلك على أن العبقرية عطاء رباني إنما تحتاج زيادة إلى غير ما تحتاج إليه الأشياء الأخرى.
إن أُسّ أساس العبقرية؛ الذكاء، والذكاء مشترك بين الناس جميعهم، فالإنسان ذكي بطبعه، ومن لم يكن ذكيا كالمجنون والتالف العقل الواقع تحت تأثير ما يفسد العقل كالمخدرات مثلا كان ذكاؤه ذكاء ضعيفا منحدرا أو ضائعا.
وأما المنغوليان فهو بذكاء دل على خلل خَلْقي جاء به إلى دنيانا، فثلاثي الصبغي أو متلازمة دارون يحتوي في كل خلية من خلاياه على 47 صبغيا، (23 يتوارثها من أحد الأبوين، و24 صبغيا من الأب الآخر) وقد أظهرت الاكتشافات الحديثة أن الصبغي 21 الزائد يأتي عادة من الأم؛ خاصة إذا حدث حملها بالجنين بعد سن 40، وهكذا نفهم أن بويضة الأم التي استخدمت في اللقاح حوت 24 صبغيا عوض 23، والصبغي الزائد هو الصبغي رقم: 21 وللعلم فإن الصبغي الزائد ليس زائدا حقيقة بل هو مقسوم إلى قسمين وبه اعتبر زائدا وفي ذلك التقسيم حصل الخلل في شخص المنغوليان كما يرى العلماء والباحثون، وعليه فالغباء في الناس حالة شاذة، فكلنا أذكياء إلا من ذكرتهم لكم، وعليه فالعبقرية والنبوغ بذرة قد بذرت في جميع الناس.
ولكي تكون عبقريا ونابغة تعلم التفكير أولا، أي تعلم كيفية التفكير في الكون والإنسان والحياة، ولكي تعرف أنك مفكر فعلا فعليك بالتمرن العقلي النظري على العمل التخيلي من أجل تغيير الأشياء وقوانين الأشياء والوقائع والحوادث في إطار من الممكن عقلا حتى يتأتّى لك تصوُّر الممكن فعلا، وحين تتصور الممكن عقلا وتراه ممكنا فعلا عندها أَدْرِكْ أنك مُفَكِّر، ثم بعد ذلك قم بالعمل على إيجاده في واقع الحياة متجاوزا الخيال أو متقيدا بتفاصيله لأنه صور وكيفيات معينة تتماس وتتقاطع وتتداخل في حركة يصعب وضع الإصبع عليها، فإذا استطعت الإمساك بما تيسر لك الإمساك به عندها أدرك أنك عبقري عليك أن تدوِّن تفاصيلها ثم تخرجها للوجود، فإن لم تستطع فأنت عبقري لأنك قد وضعت آليات أو أساليب لإخراجها، تفعل ذلك دون وضع حواجز مادية كعوائق، فالإمكانيات عند صاحب هذا النوع من التفكير تدخل ضمن عمليته الفكرية، فهو مفكر بالتزامه قانون الوصول إلى الأهداف واقتعاده على القاعدة التي بينتُ له، فمن يفكر في الممكن عقلا ورآه ممكنا فعلا لا تفوته حيلة للوصول إلى غايته لأنها غير مستحيلة، لأنها ممكنة عقلا، ومادامت ممكنة عقلا فهي ممكنة فعلا وإن شقت وصعُبت، أو عسُرت وبَعُدت.. فلا وجود لشيء اسمه اليأس في حق العباقرة ولو أن لا يحققوا ما تصوروا لأنهم بعقولهم يبنون جسورا ليعبرها غيرهم من الأجيال التي تأتي بعدهم حتى تحقق ما استعصى عليهم هم أو لم يكن تحقيق ذلك من ضمن إمكانيات جيلهم وقرنهم وهم منهم بطبيعة الحال، ولكنهم في جميع الأحوال لا يستهدفون المستحيل، ألم يحلم العالم الأندلسي الموسوعي عباس بن فرناس بالطيران قديما فلم يوفق، ولكنه زرع حلمه في الأجيال وظل ذلك الحلم بذرة حية في عقول الباحثين إلى أن حل عصر الطيران في القرن العشرين؟.
صحيح أن العمل يجب أن يحقق غاية لصاحبها، فالأجير يعمل ليأخذ أجرة على عمله، والتاجر يتاجر من أجل أن يربح في تجارته، ولكن إجارة العبقري وتجارته ليستا من هذا القبيل، ولأضرب لكم مثلا عمليا على ذلك، تصوروا وجود هدف تسوية جبل إفرست بالأرض دون استعمال متفجرات فهل يمكن ذلك؟ نعم يمكن ذلك ولكن حسابات العمل للوصول إلى تلك الغاية ليست في متناول حياة الفرد الذي يبدأ العمل لأنه لن يحقق الهدف لأنه لن يعيش القرون أو آلاف السنين وربما الملايين ولكنه يدرك بحسابات عقلية ورياضية أن ذلك ممكن في تاريخ كذا وكذا وأن من سيحققه هو غيره بطبيعة الحال، يشبه ذلك معرفة تاريخ فناء الشمس ولو ليس بالدقة المطلوبة ولكن العمل من أجل إفنائها وإطفائها ليس من الممكن عقلا ولذلك لن يشتغل العبقري على ذلك الهدف لأنه لن يضعه هدفا له حتى يعمل عليه أو يشجع العمل عليه، وإذا أخذنا رواية طنجة الجزيرة (رواية من الأدب المَمْدَري للصغار والكبار) الطبعة الورقية الأولى: 2009، والنشرة الإلكترونية الأولى: 2009 أصدرتُها في طنجة بها تصور للبطل عن شق قناة مائية لطنجة من المحيط الأطلسي إلى البحر الأبيض المتوسط حتى تصبح مدينة طنجة جزيرة عائمة، هذا التصور يدخل في الممكن عقلا، ومادام كذلك فهو ممكن فعلا، ولكن العمل من أجل تحقيق الهدف إن حصل البدء به فهو يستغرق وقتا قد يملكه العبقري وربما لا يملكه ولكنه حين تصوره ووجود من يعمل على تحقيقه فإن ذلك هو المراد ولكنه ليس كمراد الذي يعمل من أجل أن يأخذ أجرة شهرية عن عمله، أو هو كذلك الذي يتاجر من أجل أن يربح في تجارته، لا، الأمر مختلف وإن كان كل من الأجير والتاجر يدخلان في هذه المعادلة إلا أنها معادلة لا تستحق معاناة العباقرة لأن العباقرة عشاق للتغيير من أجل الزيادة في صلاح وجمال ما يسعون إلى تغييره، أو محوه إذا ظهر لهم أنه فاسد، العباقرة بهَمٍّ كبير يسع الكون والإنسان والحياة.
هذا في إطار تغيير الأشياء والقوانين والحوادث والوقائع إلا أن ذلك ينتج صلاحا وفسادا، ينتج خيرا وشرا، ينتج جديدا ينفع الحياة والكون والإنسان أو يضر بهم، ولكي نحافظ على جمالية الحياة وجمالية الكون وجمالية الإنسان لأنهم أصلا جمال قد أبدعهم مبدع لا حد لإبداعه ولا أفضل منه في تصوير خلقه وهو بالمناسبة ليس عبقريا لأنه لا يفكر، فالتفكير في حق الإله دوني وما هو إلا عمل الإنسان وله شروط لا يحصل بغيرها وهي نقائص لا يمكن أن يتصف بها خالق الكون والإنسان والحياة، وقد أعلن عن خلقه لما ذُكِر على حد تعبير العبقري محمد متولي الشعراوي ولم تثبت منازعة أحد له وادعاء أن الخلق خلقه، فالعقل العبقري والقائم على الخير حيث ما وجد والجمال حيث ما كان هو أن يزيد من جمال الأشياء إذا قدر على ذلك، أن يزيد الإنسان من جمال الأشياء كما يقول الشعراوي، وإذا لم يستطع فعلى الأقل يُبْقي الجمال على حاله ولا يسعى إلى إفساده كما يقول أيضا، لا يفسد ما لم يقدر أن يزيد من جماله وفي جماله؛ مثال ذلك تغيير خلق الله، بمعنى إفساد جمالية خلق الله تعالى، أقول لكي نحافظ على جمالية الحياة وجمالية الكون وجمالية الحياة لابد من سلوك مسلكين اثنين لا ثالث لهما: إما الإبقاء على الجمال والصلاح كما هو، و: إما الزيادة في جماله والزيادة في صلاحه، فإذا قدرنا على الزيادة في جماليتهم زدناهم جمالا، وإذا عجزنا فعلى الأقل نبقي على جماليتهم لأنهم جمال ولا نسعى إلى إتلاف ذلك الجمال وإفساده.
وبعمل المقارنة بين خلق الإنسان وخلق الله تعالى نسوق الحمار والكلب والذبابة وأي مخلوق قبّحناه ونقارن بينه وبين خلق الإنسان للأشياء؛ فالنتيجة أن خلق الله تعالى دال على مبدع وخالق حقيقي ومصور تنحني أمامه هامات المصورين مهما بلغوا من العبقرية مع العلم أن الله تعالى كما سبق ذكره ليس عبقريا ولا يفكر لأن التفكير في حقه دوني كما قلت وهو فوق التصور لا تدركه الأبصار ولن تقدره العقول حق قدره، ويكفي حسما في حقنا أن نوقن أن الله تعالى مستغن بذاته، والمستغني بذاته يملك كل شيء، ويقدر على الإتيان بأي شيء أراده من الشيء أو من العدم دون اعتراض لأن إرادته قاهرة نافذة، وعلمه كامل وخلقه أجمل وتصويره له غاية في الإتقان والجمال.
إن العبقرية مجالها المعارف والثقافات والعلوم التجريبية.. مجالها الكون والإنسان والحياة، يظهرها نتاج التفكير المنتِج على شكل أشكال وألوان وأساليب جديدة سواء غيرت مجرى الحياة وأشكالها وأساليبها وألوانها أو أبقت عليها، فالعبقري هو ذلك الشخص الذي يأتي بالجديد أو يبقي على ما هو موجود ولكنه يضيف إليه شيئا ما أو ينتزع منه شيئا ما، صحيح أن العبقري الحق هو ذلك الشخص الذي يغير مجرى الحياة كذلك الذي سيغير مجرى الحياة في العالم باكتشافه آليات وأساليب تجعل من الكهرباء كما الهواء في متناول الجميع وبذلك يكون صاحب الاكتشاف صانع القرن الحادي والعشرين كما كان العبقري نيكولاي تسلا صانع القرن العشرين.
وخلاصة القول في قواعد بناء العبقرية والنبوغ نضع هذه القوانين:
أولا: قانون توسيع دائرة التثقيف والتعليم
ثانيا: قانون وضع الأهداف
ثالثا: قانون الوصول إلى الأهداف
ــ قانون توسيع دائرة التثقيف
إذا أردنا أن نتقدم وبسرعة لنصير عباقرة ونوابغ فما علينا إلا أن نوسع من دائرة التفكير، والتوسيع فيها لا يتأتى إلا بالحصول على المعلومات وتحصيل المعارف والتثقيف بثقافة تُتَبَنّى إن كانت تقنع العقل وتوافق الفطرة وتملأ القلب بالطمأنينة وأخرى غيرها يُنْتفع بها، وكذلك الحصول على العلوم التجريبية قدر المستطاع وخاصة في المجال الذي يتم التفكير فيه حتى يتم إتقانه وبالتالي تحويله إلى رحم مفعم بجديد رائع وراق يستولده المفكر النابغة، ويظهره العقل العبقري.
قانون توسيع دائرة التثقيف قانون موجود في ذات الإنسان كل إنسان لأنه هبة ربانية، إنه يشبه قانون النمو في كل شيء حي، غير أن التوسيع يمكن أن يتحقق وربما لا يتحقق، فهو تحقيق للذات الإنسانية، والاستجابة له استجابة فطرية لما فطر عليه الإنسان، فالإنسان عاقل، وكونه عاقلا تحتم عليه أن يتميز عن غير العاقل، فالكون كتاب، والإنسان كتاب، والحياة كتاب، والطبيعة كتاب وكل ذرة أو هباءة كتاب، كل خلية وكل مظهر من مظاهر الوجود كتاب فما على الإنسان إلا أن يقرأه، فإذا لم يقرأ كتبه المعروضة عليه فلن يوسع من دائرة التثقيف والتعليم، ميزة الإنسان لعقله وبعقله وفي عقله، وعقله مناط إنتاج الفكر والثقافة والحضارة، عقله مؤهل للإبداع والعبقرية والنبوغ، ومناط بناء العبقرية والنبوغ هو التثقيف والتعليم، ولحسن حظ الإنسان أنه قد أهدي كتابا كبيرا للقراءة فيه هو الكون والإنسان والحياة فما عليه إلا أن يحسن قراءته.
ــ قانون وضع الأهداف
قانون وضع الأهداف قانون يبدأ تفعليه مبكرا جدا ذلك أن الإنسان وإن كان حيوانا في مراحله الأولى وهو كذلك طول عمره إلا أنه بالنسبة لحديثنا عن السن المبكرة يبدأ بالتفكير، وهذا التفكير نراه ونلمسه في الرضيع، صحيح أن معظم إدراكاته في هذه السن هي إدراكات غريزية ولكننا نلاحظ نمو خاصية الربط عنده من أول يوم عن ولادته، صحيح أن اليوم الأول والثاني والأسبوع الأول والثاني ربما لا يكونوا لافتين لكثيرين، ولكنهم لافتون للكثيرين لأنها أوقات ينمو فيها للطفل مخه، وهذا النمو هو من بدء خلقه أو من بدء تخليقه إلى غاية 18 شهرا من عمره بحسب الباحثين والدارسين، ونحن نلاحظ في خضم هذه السن ومع النمو للمخ؛ استعمال الطفل لخاصية الربط على صغر قيمتها، والتعبير عنها يأتي من صوته بالصراخ والبكاء، فالصراخ والبكاء يعبران عن حاجة، والحاجة مطلب من صاحب الصراخ والبكاء يستجدي بهما أمه أو مربيه، كما أن حاسة الشم والسمع واللمس بارزون في هذه السن، فقد تجد رضيعا لا يسكت عن الصراخ إلا إذا شم رائحة أمه أو سمع صوتها أو وجد ملامستها، فقد يتناوله غيرها فلا يجد ريحها ويسمع صوتها ويجد ملامستها فيشرع في الصراخ إلى أن تتناوله أمه، وإذا كانت غائبة تماما بموت مثلا فإنه لا يستقر على ريح وصوت وملامسة غيرها إلا بعد حين من اليأس يجده يحس به بعضنا ولا يحس به الكثيرون، وبمجرد البدء في استعمال خاصية الربط دل ذلك على وجود عملية عقلية، أي عملية تفكيرية، ولا يقال هنا أن الرضيع لا يفكر، فهو لا يفكر فعلا، هذا صحيح ولكنني أريد لفت انتباهكم إلى حالات يحصل للطفل فيها استعمال لخاصية الربط وبذلك يحقق عنصر التفكير بها على بساطته في ذاته الفتية، والسبب في ذلك يعود إلى النمو في تواز لكل من المخ والجوارح، وهذا النمو موضعه المحيط، محيط الطفل، فمحيطه بما يحس بلمس أو شم أو ذوق أو سمع أو مشاهدة يدل على وجود حركات وأصوات، والحركات والأصوات في أصلها سلوك للكون والإنسان والحياة على نمط معين ولكنه مختلف، وهذا النمط المختلف يشكل عند الطفل معلومات حسية حركية، والمعلومات شرط من شروط التفكير، وليست هي دائما معلومات ثقافية وفكرية، بل أيضا معلومات حركية سمعية أو جوارحية، فإذا دخلت ذاكرة الصبي وبدأت تقتعد مكانها فيها مع الزيادة لها في كل لحظة؛ عندها يبدأ الطفل بسلوك دال على استعماله لتلك المعلومات الحسية السمعية والحركية، وقد لاحظت ليلة الثلاثاء 14 أكتوبر 2017م صبيا في عمر الستة شهور يسلك سلوكا لافتا دالا على خوفه وغضبه مما جرى، فقد تخاصم أبوه مع أمه إلى درجة أفسدت عليه نومه ففاق على الصداع والضجيج، فاق ليجد صوت الأم والأب عاليين من شدة الخناق وهو يعرف صوتهما بطبيعة الحال وهما ملاذه وموطن حنانه، فهدوء الدار تحول إلى بحر متلاطم الأمواج عندها بكى الصبي وصرخ بشكل دال على خوف منه وغضب وفقدان الأمان، وأؤكد ذلك عند زوال الضجيج والصداع بحيث لم يهدأ إلا على قوى خائرة من شدة البكاء ومع ذلك ظل يبكي بصوت خافت، فما حاجة الصبي هذا؟ أليس العودة إلى الهدوء والسكينة مع صوت رحيم للأم والأب حتى يستأنس بروتينه الذي تعوده ثم يهدأ تماما وكذلك كان حين حمله والده بين ذراعيه ولكنه كان أكثر هدوءا وطمأنينة حين عاد إلى أمه ووجد ريحها وصوتها وملامستها؟.
نحن هنا نريد الوقوف فقط على خاصية الربط، هذه الخاصية موجودة عند كل إنسان سوي، واستعمالها هو الذي يظهر عنصر التفكير في ذات الإنسان، فالطفل على صغره يبدأ في استعمالها مبكرا جدا باعتماده على المعلومات الحسية الحركية وهي معلومات سابقة، أي هي إحدى شروط العملية العقلية، فإذا دخل الكتّاب أو الحضانة، أو وضع في وسط مضاف إلى وسط أبويه من شأنه إنشاء علاقات زادت تلك المعلومات وبالتالي لا حظنا نموا في الرصيد المعرفي عند الطفل وهو عينه المعلومات التي بواسطتها يربط الإنسان بواسطة خاصية الربط عنده فيحصل التفكير.
في هذه السن يستطيع الطفل أن يضع أهدافا ولكنها أهداف تناسب صغر عقله وقلة معلوماته، وقانون وضعه للأهداف يكاد ينعدم بسبب عدم استقراره على قانون معين، فهو إلى حين نضجه يغير من قوانين الأهداف بشكل لا أقول عنه أنه عشوائي، بل بشكل يتداخل فيها غيره معه فيفسد عليه العملية العقلية أو يتداخل ليدفع به إلى النضج مبكرا، ومن له صلة بيداغوجية بتعليم الأطفال وتثقيفهم يستطيع إبراز كثير من مظاهر التفكير عندهم في حواراتهم أو لعبهم، في تناولهم للأشياء والتصرف بها، في إنشاء علاقاتهم مع غيرهم من الأطفال، انظروا إن شئتم إلى لعب كرة القدم عند الأطفال ففيها تبرز العملية العقلية على صغرها فتجد طفلا بارزا يتصدر تسيير اللعب، أو تجده متصارعا مع من ينافسه في التسيير، تجد طفلا مهيمنا على الكرة يتحكم في أقرانه بسبب تملكه لها، تجد طفلة تتحكم في قريناتها اللاتي يلعبن معها بسب لُعَبٍ تملكها فتخاصم وترضى وتغضب في خضم اللعب، بل قد تصير الأمور إلى درجة جمع لعبها والذهاب بها ومنع قريناتها من اللعب بها، قد تجد طفلة منهن تروم إلى تخريب لعبها تعبيرا عن غضبها هي الأخرى وهكذا..
أريد أن أقول أن وضع الأهداف يكون في المراحل الأولى من عمر الإنسان، ولكننا دون تغييبها وإعطائها الأهمية التي تستحقها لسنا بصددها الآن، لأننا لا ندرسها في دراستنا هذه، بل نشير إليها ونلفت نظر الباحثين إليها حتى يفيدونا عنها، إنما أردت أن أبين أن العملية العقلية مربوطة بخاصية الربط التي تبدأ في النضوج في المراحل الأولى من عمر الطفل، وأن المعلومات السابقة التي بواسطتها يربط حتى يعقل هي تلك الحركات الحسية المسموعة والمنظورة.. وهذا بالنسبة للطفل مجال خاص يحتاج إلى دراسة أوسع لعلنا نضع له سياجا منيعا عن الهبوط الفكري والعلمي والمعرفي والحضاري..
وأما بالنسبة للكبار فقانون وضع الأهداف يحتاج إلى تثقيف وتعليم ودراسة، يحتاج إلى معلومات ومعارف وعلوم تجريبية حتى وإن لم يحصل الإلمام بها، أو حصل الإلمام بها مجرد إلمام.
إن وضع الأهداف يحتاج إلى كثير من الأمور بحسب علو الهدف وكبر حجمه وسعة إشعاعه، فهدف صغير مثل النجاح في الابتدائي غير الهدف الكبير منه كالنجاح في الإعدادي والثانوي، وليس كالأكبر منهما مثل النجاح في الدكتوراه، الهدف الصغير كإدارة شركة أو أسرة أو وزارة ليس هو كهدف إدارة الدولة ورعاية شؤون الشعب، وهدف إدارة العالم ورعاية شؤونه ليس كهدف إدارة دولة أو وزارة أو شركة..
الأهداف من حيث وضعها تكبر بكبر سعة أفق صاحبها وثقافته وطموحه وتصغر بصغرهم، ونحن في دراستنا هذه لا نروم الأهداف الصغيرة ولا نحقرها بطبيعة الحال ولكننا بصدد وضع أهداف تغير مجرى الحياة، تغير وجه العالم، تغير نمط حياة البشرية من سيئ إلى حسن ومن حسن إلى أحسن، وهذه الأهداف لا يضعها إلا العبقري ولكن قد يحققها غير العبقري، فوضع هدف إزاحة أمريكا عن قيادة العالم لأنها لا تستحق قيادة البهائم هدف كبير جدا لا يضعه إلا العظماء وهو معقول لأنه في الممكن عقلا، ولكن وضع دراسات، ورسم سياسات، وخلق أساليب للوصول إلى ذلك الهدف شيء أكبر، وهذا الكبر فيه ينعكس على العقل الذي يفكر فيها فلا يمكن إلا أن يكون عقلا كبيرا لأنه يريد تحرير العالم من ظلم أمريكا وهيمنتها لسبب بسيط هو أنها تحمل وجهة نظر فاسدة عن الكون والإنسان والحياة، وهذه الوجهة نظر الفاسدة هي عين الظلم، والظلم مقيت وجب إزالته ومحاربته دون هوادة من غير مخادعة ولا مغالطة، انظر إلى الاستعمار الحديث أمريكا، وإلى الاستعمار التقليدي أوروبا فهما منذ هيمنتهما على العالم لا ينتجان من خلال نظامهما الرأسمالي العفن سوى الظلم والاستغلال، والإنسانية أمانة فكيف تكون أمانة في أعناق الظلمة والمفسدين الذين لا أمانة لهم؟
إن لكل حضارة مكوناتها الثقافية، والحضارة الإنسانية خرافة الخرافات إذ لا يمكن أن تتوحد البشرية على وجهة نظر واحدة لأن الاختلاف طبيعي بينها، فالناس مختلفون حتما في عقل الأشياء وإدراكها بسبب اتخاذهم مكونات ثقافية مختلفة للاستناد عليها بغية جلب الحسن ودفع القبيح جلب الخير ودفع الشر جلب النافع ودفع الضار، والتصرف من أجل الجلب والدفع سلوك برز من خلال القناعات التي أضحت مقاييس، ولكن الخير المستجلب والشر المستدفع نسبيان في الحكم عليهما بين الناس، فما تراه أنت خيرا أراه أنا شرا إلا إذا كنت تعقل متأثرا بوجهة النظر الإسلامية التي أعقل بها أنا؛ عندها نتوحد في الرؤية وبالتالي تنشأ بيننا علاقة وفق ذلك التصور وما سوى ذلك لا قيمة له، وهذا لا يعني أن لا تنشأ علاقة بيننا وبين من يخالفوننا وجهة النظر، كلا، غير أن العلاقات بيننا لها خصوصية تابعة لثقافتنا وحضارتنا، كما أن العلاقة بين من يخالفوننا لها خصوصية تابعة لثقافتهم وحضارتهم، فغيرنا ممن هم من الإنسانية مثلنا (أي من الناس) لهم وجهة نظر أخرى وهذا لاختلاف طبيعي يبقى أن نديره بحكمة وعقلانية لأن كوكبنا كوكب تحتم العيش فيه لنا جميعا، والإقصاء ممنوع علينا جميعا.
وعليه فوضع الأهداف لتغيير هذه الخارطة شيء كبير جدا يحتاج إلى عباقرة يضعون التصورات الموصلة إلى تحقيقها، ومن كانت سعة علمه وخبرته وثقافته أوسع؛ حقق أكثر، ومن كانت سعة علمه مربوطة بعلم من لا يخطئ وثقافته تقنع العقل وتوافق الفطرة وتملأ القلب بالطمأنينة؛ حقق ما يجب، وفرق بين أن تحقق الكثير من الجديد ولا يكون مقنعا للعقل موافقا للفطرة يملأ القلب بالطمأنينة وهذا ما نشاهده اليوم في الغرب بقيادة العقيدة الرأسمالية والشرق بقيادة العقيدة الرأسمالية أيضا والتي لازالت ترتدي لباس الاشتراكية، أقول: فرق بين أن تحقق الكثير وبين أن تحقق الواجب، فما يجب هو عين الصواب لأنه منحاز للحق والحقيقة لا يركن إلى الهوى والجشع وحب الذات، بينما الكثير كثير تنتجه العقول كما تنتج الآلة ولكنها عمياء، والعقول دون الاستناد إلى الواجب لا تخدم الإنسانية ولا الكون ولا الحياة فهي أيضا عمياء..
يحتاج قانون وضع الأهداف الكبيرة إلى بُعْد نظر، يحتاج إلى رهافة حس، يحتاج إلى تثقيف وتعليم، يحتاج إلى سرعة بديهة، يحتاج إلى تثقيف بثقافة يتم تبنيها لأنها تقنع العقل وتوافق الفطرة وتملأ القلب بالطمأنينة، ويحتاج إلى ثقافة أخرى يُنْتفع بها ولا يتم تنبيها، وفرق شاسع بين الانتفاع والتبني، فالتبني يكون للقاعدة الفكرية التي تنشأ عنها قواعد أصغر منها وفروع تأتي منها وهي من جنس واحد حتى تظهر بها شخصية الإنسان، حتى تظهر بها كيفية عقله للأشياء وإدراكه لها وكيفية إشباع حاجاته العضوية وغرائزه، أعني بذلك أن يكون حامل مبدأ بشرط أن يكون المبدأ من غير الإنسان ولكنه للإنسان وهذا غير موجود في أي ثقافة غير الثقافة الإسلامية.. وأما الانتفاع فمسموح به من طرف المبدأ لأنه مبني عليه، ومعنى مبني عليه أي لا يتناقض معه، وما تناقض معه يُرْمى به إذ لا نفع فيه حتى وإن زُعِم من قصيري النظر أنه نافع، فمن يزعم ذلك يغطي على الحقيقة وبه يغش البشرية بمبدئه الوضعي العاجز الناقص المحدود المحتاج الذي يستند في وجوده إلى غيره.
صحيح أنه في عدم تبني المبدأ الإسلامي قد ظهر عباقرة في العالم كله، صحيح ذلك ولكنه ظهور في أشكال مادية وقوانين تم اكتشافها وهي موجودة مع التنكر لمن أبدعها وهو الله عزّ وجلّ إلا من طرف القليلين الذين يعترفون بوجود خالق للكون والإنسان والحياة ومع ذلك يظلون قصيري النظر ما لم يتبنوا المبدأ الإسلامي لأنه إليهم ومعني بحياتهم وسلوكهم وأنظمتهم، معني بنمط حياتهم، معني بحياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتعليمية والحكم والقضاء..
وإذن فالعبقري باعتماده طريق بناء العبقرية ليس هو العبقري الذي يعتمد نفس طريق بناء العبقرية ولكنه يزيد عليها بتبنيه للمبدأ الإسلامي، وبتعبير آخر العبقري الذي يأخذ عطاء الربوبية دون عطاء الإلوهية ليس هو ذلك العبقري الذي يأخذهما معا، فالقائد العسكري والسياسي في المبدأ الإسلامي لن يتصرف مثلا كما تصرفت المجرمة أمريكا مع اليابان لو حصل معه ما حصل معهما، فاليابان قد كانت مستسلمة لانهزامها في الحرب العالمية الثانية، وكانت الأمور والترتيبات تجري بين ضباط أمريكان وضباط يابانيين من أجل إخراج وثيقة الاستسلام وشروطها، ثم بعد ذلك تم رميهم بقنبلتين ذريتين في ناكازاكي وهيروشيا ثم ادعوا أن الإلقاء كان سببا في انهزام اليابان، والعكس هو الصحيح ولا غرابة، فالعقلية الإجرامية لأمريكا كانت متعطشة لتجريب السلاح النووي في الناس فجربته في اليابانيين، كما جربت الكثير من الأسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية في الناس سرا وجهرا، ولن ننسى الأجنة المشوهة في أرحام النساء والمواليد المشوهة بسبب اليورانيوم المُنَضَّب الذي استعمله جنودها الجبناء في العراق واللائحة في الإجرام طويلة.. فاليابان قد كانت منهزمة فعلا واستسلمت عمليا واجتمع كما قلت ضباط من أمريكا واليابان من أجل توقيع وثيقة الاستسلام ومع ذلك تم رميهم بالسلاح النووي ليدل ذلك على أن أمريكا وإن بزت في العبقرية غيرها باختراع السلاح النووي إلا أنها ليست في مستوى العبقرية التي لن تستعمله لو استسلم عدوها لها لأنها تسعى إلى إحياء الناس وليس إماتتهم في حروبها، تسعى إلى إزاحة الطغاة والجبابرة وتحرير الشعوب والأمم من ظلمهم وطغيانهم.
قانون الوصول إلى الأهداف
قانون الوصول إلى الأهداف قانون يتعلق بالتفاصيل، قانون يتعلق بدقائق الأمور، قانون لا يتحقق إلا إذا اشتركت فيه الجماعة، فالتفكير فردي فقط ولكن العمل فردي وجماعي، فالقانون الموضوع من أجل الوصول إلى الأهداف يحتاج إلى عمل، والعمل عمل الفرد، ولكنه في عظائم الأمور لا بد من إشراك الجماعة فيه، لا بد من تكاتف الجهود من طرف الشعوب والأمم حتى يتحقق الهدف الذي تم وضع قانون للوصول إليه.
وقبل التطرق إلى بعض التفاصيل للأمثلة عليه دعونا نتصور قانون الوصول إلى الأهداف.
معلوم أن الهدف لا يمكن أن يوضع إلا إذا تم التفكير فيه، والتفكير كما قلت عمل الفرد وليس عمل الجماعة، فالفرد لا يفكر بالجماعة، بمعنى لا تكون الجماعة سببا في إنشاء تفكيره، يفكر بها فعلا أي يفكر بسببها من أجل عمل شيء لها، وكلما اجتمع الناس قل عندهم التفكير، صحيح أن الجماعة تفكر ولكن بأفرادها كلٌّ على حِدَة، ولكنهم عند اجتماعهم يقل عندهم التفكير، ومعلوم أيضا أن العمل المجدي لا بد أن يكون من أجل غاية، من أجل هدف، ونحن قد تجاوزنا مرحلة التفكير حين استقر أمرنا على قاعدة فكرية عظمية نتخذها أساسا لبناء الفكر عليها وإخراج التصورات منها، وفات معنا الحديث عن قانون توسيع دائرة التثقيف وقانون وضع الأهداف، فوضع الأهداف لا يتأتى عند العبقري إلا بناء على أرضية فكرية وحضارية، على أرضية ثقافية ومعرفية، على أرضية علمية تجريبية وأرضية معبأة بالخبرة الإنسانية..
إن هناك قوانين طبيعية وقوانين غير طبيعية، فالقوانين غير الطبيعية هي تلك القوانين التي يضعها الإنسان للآلة مثلا، فالآلة عند نصبها على شكل معين وضبطها على إيقاع معين وتهيئتها لحركة معينة تسلك نفس المسلك الذي وضعه لها مهندسها، فهو بذلك قد وضع لها قانونا لا يمكن أن تحيد عنه لأنه لا إرادة لها في التمرد عليه وهذا الذي وضعه هو القانون غير الطبيعي في تقديرنا، قس على ذلك جميع الحركات التي تأتي من مخترعات إنسانية قد اخترعها الإنسان وضبطها كالسيارة والطيارة والباخرة والصاروخ الخ ..
وأما القانون الطبيعي فهو القانون المفطور عليه الإنسان، القانون المفطور عليه الكون، فقوانين الكون والإنسان والحياة لا دخل له بها من حيث وجودها وإنشاؤها وهو يجد نفسه خادعا لها؛ هذه القوانين هي القوانين الطبيعية، وهي هامة جدا من حيث التنبه لها أولا، ثم من حيث الاعتماد عليها ثانيا، التنبه لها يتأتى بالوعي عليها، والاعتماد عليها يتأتى من حيث عدم مخالفتها، ألم نقل أن العاقل لا يفكر في المستحيل؟
وعليه فالسلوك الإنساني يجب أن يأخذ بعين الاعتبار قوانين الكون والإنسان والحياة إذا أراد أن يضع لإبداعه قوانين، وهناك قوانين كفت الإنسان عناء البحث عنها والدراسة من أجل تحصيلها مثال ذلك سلوك الإنسان وسلوك المجتمع في التصور المعرفي، أي في غير العلوم التجريبية.
فالعبقري المنظِّر والمفكّر والمربّي حين يريد تغيير سلوك الإنسان الإجرامي لا يعتمد القوة من أجل إيقاف الإجرام، صحيح أن القوة لا بد منها لردع الإجرام وإيقافه ووضع حد له، ولكن ذلك يتأتى بالقوة ولا يتأتى بالإقناع، فالمجرم مجرم حين يكون حرا وحين يكون في الأسر، وهذا السلوك لا يسلكه العبقري لأنه لا يعمد إلى تغيير سلوك دون أن يعرف كيفية نشوئه، فحين يعرف كيفية نشوئه يعمد إلى وضع حد له بغير القوة، بل بالطريق الذي يعي عليه في الوصول إلى تغيير السلوك الإجرامي للمجرم، لأن الإجرام سلوك نشأ بقانون فوجب أن يتغير وفق قانون، وإذا لم ينجح فالتغيير لا يتحقق ولو بقوة القانون بل يمنع مؤقتا وبشروط القوة على القيام به مرة أخرى أو عدمه.
إن الفرد والإنسان يسلك في حياته وفق مفاهيمه عما يريد إبراز سلوك بشأنه، وهذا السلوك من منطلق تلك المفاهيم هو الذي يكيّف سلوكه في حياته، فقناعاته مثلا عن شيء لا يحبه يجعله يتجنبه، فإذا كان مصلحة تنشأ بحسبها علاقات وكان حكمه القيمي عليها أنها ليست مصلحة؛ لا يسعى إلى إنشاء علاقة بشأنها لأنه لا يحب ذلك الشيء، بمعنى أنه مصلحة لغيره ينشئ بها علاقة مع من يملك نفس النظرة ولكنها ليست مصلحة له هو ولا لمن يملك نفس نظرته لها فلا تنشأ علاقة بينهما بسببها لأنها ليست مصلحة في نظرهما وإن كانت مصلحة في نظر غيرهما، وإذا كانت لديه أحكام جاهزة قد شكلت قناعات حتى أضحت مقاييس فإنه يكيف سلوكه وفق تلك المقاييس لأنه مقتنع بها، ففي الحياة الاجتماعية التي تنظم علاقة الرجل بالمرأة وما ينشأ عنها من أبوة وأمومة وجدودة وعمومة وخؤولة وحفادة وصهرة وغيرها فإنه لا يتزوج مشركة أو ملحدة لأنها لا تشكل حاجة لإنشاء علاقة اجتماعية معه لأنها ظالمة ظلما لا يغتفر وهو الشرك بالله والإلحاد، إذ كيف يعقل لإنسان يعيش في أرض الله وتحت سماء الله ويأكل ويشرب من رزق الله ثم يظلم نفسه وغيره حين ينكر نعمه وفضله عليه بإنكار وجوده أو الإشراك به، فأكبر الظلم الشرك بالله.
الإسلام قد حَرّم الزواج من مشركة قال تعالى: ((وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) البقرة، وصاحبنا يكيف سلوكه في الحياة وفق الأحكام الشرعية التي هي مفاهيم قد اقتنع بها بعدما آمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، فلا يحب إلا من أحب الله وما أحب الله، ولا يكره إلا من كره الله وما كره الله، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) البقرة،
وقال تعالى: ((لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) الروم، وقال تعالى: ((مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) البقرة، وقال تعالى: ((قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) آل عمران.
وفي الحياة الاجتماعية أيضا لا يُزوِّج ابنته أو أخته أو أمه لكافر سواء كان من أهل الكتاب وهم كفار بطبيعة الحال ولو كره الكارهون قال تعالى: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)) (1) البينة، أو من غيرهم من الملاحدة الماركسيين والمشركين البوذيين أو غيرهم ممن لا يؤمنون بالإسلام أو يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض كالمنافقين الشيعة الاثني عشريين في قولهم بتحريف القرآن الكريم والزيادة فيه والنقص منه، لا تنشأ علاقة اجتماعية بين ابنته وهذه الأصناف لأن مفاهيمه عنهم لا توجب إنشاء علاقة اجتماعية بهم ولكنها لا تنفي إنشاء علاقات اقتصادية وسياسية وغيرها معهم، والسبب في ذلك هي مفاهيمه، فالمفاهيم إذن هي التي تحدد سلوك الإنسان، فإذا أريد للإنسان أن يتغير في سلوكه فما علينا إلا أن نسلط جهدنا على الأفكار والمفاهيم، فإذا استطعنا تغيير أفكاره ومفاهيمه وتحولت إلى قناعات ومقاييس فالنتيجة تغيير سلوكه من تلقاء نفسه لأن السلوك يأتي من قناعاته بتلك المفاهيم التي صارت مقاييس..
هذا في المثال على الفرد، أما المثال على المجتمع فالإنسان عند السير من أجل تغيير المجتمع يسلك القوانين الطبيعية حتى يتأتى له التغيير، لأن الإنسان ليس آلة كسائر الآلات، صحيح أنه آلة يستطيع الإنسان التلاعب بها والتصرف فيها وإصلاحها أو تخريبها ولكنه في كل الأحوال عاجز عن إخراجها عما خلقت لأجله، انظر إلى الحديد مثلا وشكِّل منه ما شئت فإنك تستطيع تذويبه من جديد واستخراج أشكال أخرى غير التي كانت له في السابق، والإنسان ليس كالحديد، وبناؤه ليس كبناء الحديد وإن كان كل منهما في أصله ذرات، غير أن مادة تركيب الإنسان وإن كانت هي نفسها مادة تركيب الحديد إلا أن الإنسان بهذه الذات يستطيع التصرف في ذاته وفي الحديد أيضا، بينما الحديد لا يستطيع التصرف في ذاته ولا في الإنسان وإن كانا خاضعين للقوانين الطبيعية، والإنسان هنا كالحديد كلاهما يخضع للقوانين الطبيعية غير أن للإنسان مجال آخر ليس للحديد ولا لأي جماد آخر، مجاله التصرف العقلي، انظر إن شئت إلى جزيئات الحديد فطبيعتها أنها لا تتحرك في اتجاه واحد ولكننا إذا سلطنا عليها المغناطيس تبدلت حركة جزئياته واتخذت لنفسها اتجاها واحدا هو اتجاه جزيئات المغناطيس لأن جزئيات المغناطيس لا تعرف إلا اتجاها واحدا إما إلى الشمال أو إلى الجنوب خلاف الإنسان، فلإنسان لا يتبدل سلوكه أو يتغير إلا بعامل الفكر والثقافة علما بأن سلوكه يأتي من جوارح محكومة طبيعيا كما الحديد والمغناطيس محكومان غير أن ذلك في حق الإنسان متجاوَزٌ بإرادته التي له، فلا يتصرف إلا وفق أفكاره ومفاهيمه وتأتي الجوارح متحركة تبعا لتلك المفاهيم، صحيح أن حركة كليتيه وقلبه وكبده وكثير من أعضائه ليست من إرادته، ولكن غيرها كالجوارح وإن كانت ليست من إرادته هي الأخرى من حيث ارتباطها بالجهاز العصبي والمخ إلا أنها لا تتحرك حركة الكليتين والقلب والكبد بل تتحرك وفق أوامر صادرة لها من الإنسان ذاته، وهذا هو الأروع في خلق الله تعالى، شيء منك لا تستطيع تحريكه بإرادتك، وشيء منك قد سُخِّر ليتحرك وفق إرادتك، وإن شئتم اليقين فانظروا إلى مشلول اليدين، هل يريد تحريكهما؟ الجواب نعم، فلم لا يتحركان؟ لأن أوامره لهما قد حيل بينها وبين الاستجابة بسبب فقدان التواصل بين مخه وأعصابه وبينها أو لأنهما غير مؤهلتين للحركة بعطل أو آخر، فكان ما يملك الإنسان في حقيقته ليس ملكا له، وانظروا إن شئتم أيضا لنفس الجوارح يوم القيامة حين تشهد على الإنسان، كيف تشهد عليه؟ تشهد عليه على غير إرادته في الوقت الذي يفقد سلطانه عليها.
إن تغيير سلوك المجتمع والجماعة يتأتى بنفس القوانين التي يتغير بها سلوك الفرد، غير أن المجتمع ما دام علاقات دائمية بين الناس يتبادلون المصالح بينهم وفق مفاهيم سائدة في المجتمع يتغير بنفس الآليات ولكن بشكل صعب غير أنه غير مستحيل، والذي يسعى إلى تغيير المجتمع ليس الفرد، بل الجماعة؛ في كتلة، لأن الحاجة ماسة إلى الأعمال، والأعمال المادية للجماعة ينتجها الفرد والجماعة إلا أن الجماعة هنا أقدر على القيام بالأعمال من الفرد، فالتكتل على نظرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، على مبدأ يتم تبنيه وإتقان الدعوة إليه يؤهله لمخاطبة المجتمع مخاطبة فكرية من خلالها يتم زعزعة القناعات والمقاييس والمفاهيم السائدة في المجتمع وإعطاء بديل لها أحسن منها، ومن خلالها تُنْتَهج سياسية تتجلى في رعايته للشؤون دون مجاملة أو نفاق مع الصرامة في تقديم الفكر كما هو دون إدخال ما يرضي المجتمع عليه مصاحبا لحسن الأداء وصفاء السريرة وصدق اللهجة، يعمد التكتل الحزبي إلى الصراع الفكري والكفاح السياسي، فإن نجح في إيجاد رأي عام لمبدئه وآمن به من بهم يقام مجتمع جديد من أهل القوة والمنعة أو من غيرهم؛ يقام المجتمع الجديد بشكل طبيعي وفق القوانين الطبيعية ويكون الأرقى لأنه يكون مبدأ جديدا قد حول سلوك الناس الذين كانوا في المجتمع المنقرض من السلوك القديم المنحط إلى سلوك جديد ناهض أحسن وأرقى من السلوك القديم، وبه يتغير المجتمع بشكل طبيعي، يتغير سلوك الناس نفس الناس، لا يتغير بانقلابات لأنها تكون فاشلة، الانقلابات التي يأتي بها التكتل انقلابات في الفكر والمفهوم، في الثقافة والحضارة، في المعارف والعلوم وبه تتحقق النهضة الحقيقية بذلك التغيير المستهدف.
لقد تصورنا أمورا ربما تكون كافية لإدراك قانون الوصول إلى الهدف أيّ هدف ما لم يكن غير معقول، ولأضرب مثلا على ذلك:
المثال هو أني أريد أن أنتقل إلى مكان بعيد بوسيلة نقل غير حية أي بغير البهائم، ولا أقول غير تقليدية، فالسيارة قريبا ستضحى وسيلة نقل تقليدية بما فيها تلك التي تسير بمحركات كهربائية، هذا إذن هو الهدف، الهدف هو التنقل من مكان إلى آخر، تبقى تفاصيل تحقيقه، فجاء القطار بدون عجلة قيادة لأنه يسير في اتجاهين اثنين فقط إلى الأمام وإلى الخلف ويسير في سكة لا بد منها لأنه يمتطي الحديد ولا يمتطي الريح كالطائرة، وله نظام للسير محكوم بالقضبان الحديدية وله نظام للإيقاف (فرملة) في الاتجاهين، وعليه فقانون الوصول إلى الهدف الذي تحدد وهو الوصول إلى مكان معين إلى مدينة معينة هو الالتزام بالسير على القضبان الحديدية بقوة دفع بخارية أو كهربائية مع أنظمة له تم ذكرها، والقطار هو الآلة التي تجمع تلك الأنظمة بما فيها الركاب لأنهم جزء من النظام العام للقطار، وإذا أريد لهم ألا يكونوا جزءا منه فالأصل أن يكون الهدف لغيرهم وليس لهم ولكن الهدف الثاني قد جاء في سياق الهدف الأول لأن الإنسان يفكر في مصلحته أولا، ويتجاوز مصلحته إلى الكون والإنسان والحياة، تتجاوز مصلحته من البهائم للركوب والزينة إلى الركوب بوسائل أخرى واستعمالها لنقل البضائع.. وعليه فالوصول إلى الهدف يتأتى بتلك التفاصيل التي سقتها وهي من إبداع عبقري أو عباقرة اشتركوا في الاختراع أو استفادوا من بعضهم البعض أو بنوا معلومات على معلومات بعضهم البعض إلى أن حصل هذا الاختراع.
وإذا أخذنا السيارة سنجد أنها تتحرك في أربع اتجاهات ولها أنظمة خاصة بها وهي مصنوعة لنفس الهدف الذي صنع من أجله القطار وينطبق عليها ما ينطبق على القطار مع اختلاف معلوم بينهما.
وإذا أخذنا الطائرة المروحية نجدها وسيلة نقل ووسيلة حرب، وبتعبير آخر كل اكتشاف يمكن صرفه عن حقيقة هدفه، أي يمكن إضافة أهداف أخرى له غير التي وجدت مبدأ من أجله، فالمروحية للنقل وللحرب، فالنقل والحرب هدفان، وحركتها مقصودة لمن أرادها، تبقى تفاصيل حدوث الحركة من أجل الوصول إلى الهدف وهو القانون الذي نتحدث عنه، وعند النظر إلى تفاصيل تحقيق الهدف وهي قوانين للوصول إلى الهدف نجدها حركة في خمس اتجاهات خلاف غيرها من الطائرات وخلاف السيارات والقطارات والبواخر، حركة للأمام والخلف، حركة للأعلى والأسفل، حركة للدوران حول محورها في الجو، حركة بقاءها مكانها محلقة، وجود مقوض للقيادة بدل العجلة على شكل عصا الألعاب يحركها للأمام والخلف ولليمين واليسار، ولها دواستين للتحكم في حركة ذيل الطائرة والعجلات..
هذه التفاصيل هي لتحقيق هدف التنقل والحرب، كلاهما أو أحدهما، وإذا أريد لها المزيد فالمزيد لا يزاد إلا بوجود هدف آخر لها، انظر إن شئت إلى الطائرات الحربية غير العمودية ففيها القاذفة وفيها المقنبلة وفيها المعترضة وفيها ما يجمع عدة اختصاصات وكل تلك الاختصاصات عبارة عن أهداف وضعت لها زيادة على الهدف الأصلي الذي صنعت من أجله، أو يكون جمع تلك التخصصات هو الهدف من تصنيعها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد محمد البقاش أديب ومفكر مغربي من طنجة
منشورات الجيرة طنجة في: 15 نوفمبر 2017م الساعة: الواحدة صباحا (أي ليلا)

أضف رد جديد

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 37 زائراً