بين عصريتها و شرقيته/الجزء الأول

منتدى خاص بفنون الادب النثرية من مقالة وخواطر

المشرف: أريج

قوانين المنتدى
• يمنع وضع اي مواد محمية بحقوق نشر دون موافقه مسبقه من صاحبها
قوانين المنتديات العامة
أضف رد جديد
تهاني أبو التين
عضو مشارك
عضو مشارك
مشاركات: 10
اشترك في: السبت فبراير 19, 2011 3:43

بين عصريتها و شرقيته/الجزء الأول

مشاركة بواسطة تهاني أبو التين » السبت فبراير 19, 2011 1:44

إرتدى الكسل على وجهه النحيل .. إسيتقظ جسده الذي كان راقدا في سبات ضحل .. جلس على حافة السرير لوهلة .. تجعد وجهه .. تصلبت ملامحه .. تمددت عضلات الجزء الأسفل منه .. بدأ يتثاوب .. ربت بيده اليمنى على فمه المفتوح ثلاث مرات متتالية و متتابعة كمن يربت على رأس طفل صغير مدندنا "يا الله تنام يا الله تنام" .. إستيقظ جسده غافلا عن ذهنه الذي تُرِكَ معلقا بغطاء النوم السحري الملقى على سريره المتداعي .. ذلك الغطاء المخملي الخمري اللون المطرز بأرقى و أفخم الخيوط العجمية .. أي يد تلك التي خاطت هذه التحفة الفنية النادرة؟ .. أي يد حاكتها؟ .. أي أنامل طرزت هذه الخيوط كمصفوفة رياضية ترتبت عناصرها ضمن الصفوف و الأعمدة كما يجب لها أن تكون؟ .. أي فكر هذا الذي صاغها؟ ..

كان كل مساء .. حين يدنو القمر من نافذة غرفته النعسى .. و يقترب موعد النوم .. يلقي بجسده المتهالك على قارعة السرير .. عيناه مواجهتان لسقف غرفته المتداعي و يداه تتهامسان .. تتسابقان .. تذهبان و تأتيان .. تتساءلان .. أي يد تلك التي خاطت هذه التحفة الفنية النادرة؟ .. تتذكران .. تحاكيان .. تتنهدان ..

ما زال يتذكر .. لقد كان جالسا على الحصيرة .. في يده القلم .. و في عقله تتصارع الأفكار و تتصادم المشاعر .. لكل فكرة كتلة .. لكل شعور سرعة .. و حين تتقابل الأفكار و المشاعر و تتضارب الكتل و السرعات المختلفة ببعضها يكتظ العقل بزخم فكري عميق .. إختاره معلم اللغة العربية ليتناول موضوعا من مواضيع الحياة المختلفة ليكتب عنها .. لينثر فصاحته الحديثة النضوج على صفحات ورقية أختزلت ربما من إحدى أغصان أشجار الفناء الخلفي لمنزله .. فرضت صورة من الماضي نفسها عليه .. تمثل الصورة تلك الرقعة من الغرفة التي كانت تتخذها ماكينة الخياطة الألمانية التي إشتراها والده هدية لوالدته في عيد زواجهما العاشر .. في أحد الأيام تسابق هو و أخوه الأصغر على مقص الخياطة الذي كانت تودعه والدتهما في الدرج الثاني للطاولة التي إبتكرها أخوه الأكبر و جهزها لتحفظ الماكينة و تعين والدته على الخياطة .. و بلحظة ثملة أخرج المقص بسرعة و سحبه بسرعة دون أن يعي أنه الآن على وشك أن يخدش حياء تلك الماكينة الخجولة التي كانت ترتدي غطاءا حريريا أسودا مطرزا بخيوط فضية ساطعة ليسترها .. كم أبكت الحادثة والدته .. كم جلست تتفحص ذلك الخدش .. تتلمسه .. تتمنى لو أنها في ذلك اليوم نسيت مقص الخياطة في مكان ما بعيد عن ماكينتها الغالية .. لو أن مقص الخياطة لم يكن موجودا أصلا .. فمنذ أن توفي والده و هي تنظر إلى ماكينتها على أنها مستودع الأسرار .. مخزن المشاعر .. مرفأ الذكريات .. كيف تسمح لأي كان أن يخدشها .. أن يلمسها .. أن يعبث بها .. لربما لم يرزقها الله البنات و لكنها كانت ترى في ماكينتها الغالية الحياء و الأنوثة .. يااااااااااه كم بكت ..

في ذلك اليوم .. زاره و والدته الحظ سوية .. فقد إنتهى من كتابة المقال .. و قد إنتهت والدته من حياكة غطاء للنوم يكون أقرب ما يمكن إلى أغطية النوم التي كتب عنها في كتاب ألف ليلة و ليلة .. مخملي خمري اللون مطرز بأرقى و أفخم الخيوط العجمية .. يتجاوز المترين بالطول و المترين و نصف بالعرض .. أما زخرفاته فكانت تتخذ أشكال زخارف عجمية غريبة .. لم يلحظ لها مثيلا في أي من أغطية النوم التي احتواها منزله .. كل زخرفة تروي قصة .. و تقص ألف حكاية و حكاية .. و الأغرب و الأعجب أنه إذا ما تتبعت هذه الزخارف من بداية الغطاء و حتى نهايته في أي من المحورين السيني أو الصادي حتى تنتهي بحروف إذا ما جمعتها تكون لديك الإسم "نضال" .. "نضال" الزوج .. "نضال" الوالد .. "نضال" الصديق و الرفيق .. "نضال" الذي غادر و ألقي بجسده في صندوق خشبي خبىء تحت التراب و وضعت على بدايته لوحة رخامية حفر عليها إسمه .. تاريخ ميلاده .. و تاريخ وفاته .. و زين بأكاليل الورد .. و ترك هناك يصارع البرد و الحر ..

و ما أعذبها من ذكرى تلك التي جمدتها ذاكرته حين نفضت والدته الغطاء في الهواء و فرشت به الأرض العارية و بدأت تتفحصه و عيونها تغرورق بالدموع و السعادة .. ما أرقاه .. ما أجمله .. أي يد هذه التي حاكته؟ .. أي فكر هذا الذي صاغه؟ .. أي حكايات يرويها .. أي ذكريات يحفظها ليذكرنا بها ..

كم أحبه .. ما أعظمها من ليال تلك التي قضاها بجانب غطاء النوم العجيب هذا يحاكيه .. يروي له الأقاصيص .. يتبادل معه الأدوار و الحوارات و النقاشات .. كم تمنى لو أن والدته ساحرة .. أو أنه هو ساحر فيحول هذه التحفة الفنية إلى منحوتة ناطقة ..

تذكر على غفلة تلك الليلة حين تسلل من غرفته و إتجه إلى غرفة الغسيل و أخذ يبحث عن المكان الذي علقت فيه والدته الغطاء ليجف .. و حين وجده سحبه برفق و هدوء .. و أتى به غرفته يدفؤه ليجف .. يحتضنه كما تحتضن الطفلة الصغيرة دميتها أو عروستها .. كم فرح به تلك الليلة .. كانت ليلة قصيرة بالفعل .. باردة و دافئة .. و في الصباح .. كم تغلبت والدته في إقناعه أن عليها أن تكوي الغطاء لتضعه على سريرها و ما زال يتذكر جملتها " إذا كنت تعشق هذا الغطاء إلى هذه الدرجة سأحرص على أن يكون من نصيبك حين يتوفاني الله" .. ما زال يتذكر كم فرح أن والدته فضلته على باقي إخوته و أعطته حق الحصول على الغطاء فيما بعد و لللإبد و بدأ يتحسر كيف لم يقل "أماه لا تقولي هذا الكلام, أطال الله في عمرك" و بدأ يشعر بالذنب و يحمل نفسه الأمارة بالسوء خطيئة أنسته نشوة الحصول على الغطاء أن يتجنبها ..

فتح باب الذكريات على مصراعيه .. و بدأت ذكريات حديثة تطرق باب ذهنه ليتذكرها .. ليتذكر عصرية و إنفتاحية فتاة أغرقته بأنوثتها .. و أسرته بفلسفتها و فكرها

أضف رد جديد

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 8 زوار